(الصفحة 192)
التزامه بذلك ولم ينقل إلينا التزامه أصلاً، ودعوى استفادته من التتبّع في الروايات مدفوعة بأنّه فرع ثبوت وثاقة جميع من روى عنهم وأنّى لكم بإثباته فمجرّد نقل ابن أبي عمير عنه لا يكشف عن وثاقته، وامّا ما عرفت من العلاّمة الطباطبائي من استفادة الوثاقة من طريق ثبوت الأصل له ففيه انّه لم يدلّ دليل على كون «الأصل» في الاصطلاح بهذا المعنى ومن المحتمل أن يكون المراد منه ثبوت كتاب له في اُصول العقائد من الإمامة وغيرها كما انّه يحتمل ـ قوياً تبعاً لسيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ أن يكون الأصل قسماً من الكتاب قسيماً للمصنف نظراً إلى انّ الأصل عبارة عن الكتاب الموضوع لنقل الحديث سواء كان مسموعاً عن الإمام بلا واسطة أو عنها، وسواء كان مأخوذاً من كتاب وأصل آخر أم لا، ولا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر، وامّا المصنّف فهو عبارة عن كتاب موضوع لغير نقل الحديث كالتاريخ والتفسير والرجال ونحوها، والشاهد عليه مقابلة المصنّف بالاُصول في كثير من العبارات وجعل كليهما قسمين من الكتاب في بعضها وقول بعضهم في عدّة من الموارد: له أصل معتمد.
أضف إلى ذلك انّ اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصل زيد النرسي على حديثين أو ثلاث أحاديث يدلّ على عدم اعتمادهم عليه مع وضوح كونهم مجدّين في نقل الأخبار وجميع الروايات وعليه فلم يثبت وثاقة زيد النرسي ولو كانت المناقشة في النسخة غير تامّة.
الجهة الثانية: في متنها وقد وقع فيه اختلاف، قال في المستدرك: «عن زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثمّ يصبّ عليه الماء ويقود تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث فإنّ النار قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر ويصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء
(الصفحة 193)
فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصارت حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. قلت: هكذا متن الخبر في نسختين من الأصل وكذا نقله المجلسي (قدس سره) فيما عندنا من نسخ البحار ونقله في المستند عنه، ولكن في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم تبعاً للجواهر ساقا كذلك: عن الصادق (عليه السلام) في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء؟ فقال: حرام حتّى يذهب الثلثان وفي الثاني ـ الجواهر ـ إلاّ أن يذهب ثلثاه، قلت: الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال: هو كذلك سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه. بل فيه نسبة الخبر إلى زيد الزراد وزيد النرسي، ولا يخفى ما في المتن الذي ساقاه من التحريف والتصحيف والزيادة وكذا نسبته إلى الزراد».
والعجب من شيخ الشريعة (قدس سره) حيث إنّه لمّا أرى صراحة الرواية ـ بهذا المتن ـ في خلاف مدّعاه السابق أخذ في الإشكال والطعن على الأكابر فقال: هذا الذي اتّفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكّر مثله والاستعاذة بالله العاصم عن الوقوع في شبهه. ثمّ نقل الرواية على طبق نقل المجلسي الموافق لما نقلناه أولاً عن المستدرك ثمّ قال ـ بعد كلام ـ : وأوّل من عثرت عليه ممّن وقع في تلك الورطة الموحشة والهوّة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحِّر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني فتبعه من تبعه، ثمّ ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام المتضمّنة للزوم الرجوع إلى كتب الأخبار في نقلها وعدم صحّة الاعتماد على الكتب الفرعية.
وأنت خبير بأنّه ينبغي أن يسترجع عند تذكّر مثل هذا الكلام من إطالة اللسان والطعن على الأكابر الأعلام فانّ الشيخ سليمان البحراني ـ على ما يظهر من ترجمته ـ كان زميلاً للعلاّمة المجلسي وعديلاً له وكان محقّقاً عالماً عاملاً فقيهاً محدثاً، وعن
(الصفحة 194)
بعض تلامذته انّ هذا الشيخ كان اعجوبة في الحفظ والدقّة وسرعة الانتقال في الجواب والمناظرة وكان ثقة في النقل إماماً في عصره، وحيداً في دهره، أذعنت له جميع العلماء، وأقرّت بفضله جميع الحكماء وكان جامعاً لجميع العلوم علاّمة في الفنون حسن التقرير عجيب التحرير خطيباً شاعراً مفوّهاً، ونقل ما يقرب منه عن صاحب الحدائق.
وبالجملة كان هذا الشيخ الجليل معاصراً للمجلسي وهو قد روى الحديث بالمتن المطابق لرواية الشيخ في الطهارة تبعاً للجواهر على ما أفاده المستدرك، وكيف يمكن نسبة الغلط والتصحيف إليه بمجرّد مخالفة حديثه لنسخة المجلسي بعد انّه يحتمل ـ قوياً ـ وجود نسخة اُخرى عنده غير ما عند المجلسي.
وكيف كان فالرواية مختلفة المتن لا مجال للاتكال على خصوص نسخة أصلاً.
الجهة الثالثة: في دلالتها والإنصاف انّ دلالتها على حرمة عصير الزبيب بعد الغليان ـ لو أغمض عن سندها واختلاف متنها ـ تامّة، وما يقال: من انّ التعبير في ذيلها بالفساد دون التحريم ـ على نقل المجلسي ـ لا يبعد أن يستظهر منه صيرورته معرضاً لطرو الفساد والإسكار عليه فلا دلالة له على الحرمة، مدفوع بانّ المتفاهم عند العرف من التعبير بالفساد في لسان الشارع هو الحرمة وليس من شأن الإمام (عليه السلام) بيان ما لا يرتبط بالشرع من فساده تكويناً أو إسكاره كذلك.
وقد يتمسّك للتحريم بروايات اُخر:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: كل ع صير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. بدعوى شمولها ـ بمقتضى لفظ العموم ـ لعصير الزبيب أيضاً.
وفيه أوّلاً: انصراف العصير إلى خصوص العنبي، ويؤيّده انّه لا يصحّ أن يكون
(الصفحة 195)
مطلق العصير موضوعاً للحكم بالحرمة ولو مع قيد إصابة النار إيّاه، ودعوى انّه لا مانع من خروج ما خرج مدفوعة بلزوم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً فلابدّ من الحمل على خصوص العصير العنبي.
وثانياً: لو فرض العموم والشمول لكل عصير ـ من أيّة فاكهة كان لكن نقول العصير الزبيبي ليس بعصير أصلاً فانّ العصير ماء يخرج من جوف الفاكهة ـ مثلاًـ بالعصر والزبيب ليس مشتملاً على ماء أصلاً بل المراد بعصيره ـ كما عرفت ـ هو ماء نبذ فيه الزبيب واكتسب الحلاوة منه للمجاورة فهو ليس بعصير حقيقة فلا معنى لشمول الدليل له.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمّ يؤخذ الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به. والتعبير عنها بالصحيحة يبتني على وثاقة سهل بن زياد ـ كما هو الأصحّ ـ وهي تشتمل على تقرير الإمام (عليه السلام) السائل بما كان في ذهنه من حرمة عصير الزبيب قبل ذهاب ثلثيه ونفي البأس عنه بعد ذهابهما.
وفيه: انّ الظاهر انّ السائل لم يكن شكّه إلاّ من جهة انّ ماء الزبيب المطبوخ إذا ذهب ثلثاه وبقى ثلثه هل يجوز شربه في طول السنة أو انّه معرّض للفساد والإسكار ولا يجوز شربه. وبعبارة اُخرى: السؤال إنّما هو من جهة عروض الإسكار له أو عدمه بعد ذهاب ثلثيه ولا دلالة له على تحقّق التحريم بمجرّد الغليان وتوقّف رفعه على التثليث.
ومنها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال: إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً
(الصفحة 196)
(مأموناً) فلا بأس أن يشرب.
ونحوها: رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم انّه على الثلث فيحلّ شربه؟ قال: لا يصدق إلاّ أن يكون مسلماً عارفاً. بتقريب انّ الشراب ـ في الروايتين ـ بإطلاقه يشمل كل عصير ويستفاد منهما لزوم التثليث ولا وجه له إلاّ رفع الحرمة.
وفيه: انّهما بصدد بيان جواز الاعتماد على أخبار من يخبر بذهاب الثلثين في مورد يحتاج إليه وعدم جوازه ولا دلالة لهما على لزوم ذهابهما في كل عصير ولا تكونان بصدد بيانه أصلاً، مع انّ شمول «الشراب» لكل عصير لم يقم عليه دليل.
ومنها: موثقة عمّار أو مرسلته قال: وصف لي أبو عبدالله (عليه السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً فقال لي: تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ثمّ تصبّ عليه الماء إلى أن قال: فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث الحديث. فانّها ظاهرة في انّ الزبيب المطبوخ لا يصير حلالاً إلاّ بعد التثليث.
والإنصاف انّ إشعارها بذلك بل دلالتها عليه لا ينبغي المناقشة فيه أصلاً إلاّ انّ الرواية مردّدة بين الموثقة والمرسلة والمتن المذكور الدالّ على الحرمة انّما يكون سندها مرسلاً لا يجوز الاعتماد عليه، وامّا الموثقة فمتنها هكذا. قال: سُئل عن الزبيب كيف يحلّ طبخه حتّى يشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثمّ تطرح عليه اثنى عشر رطلاً من ماء إلى أن قال: ثمّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار الحديث. وهذا لا يكون ظاهراً في المدعى لأنّ محطّ نظر اسائل على هذا المتن هو انّ الزبيب كيف يطبخ حتّى يبقى عدّة أيّام كسنة أو أزيد من دون أن يعرضه الفساد والإسكار فهو نظير صحيحة علي بن جعفر ـ المتقدّمة ـ الواردة في السؤال عن طبخه بنحو يجوز أن يشرب منه السنة.