(الصفحة 194)
بعض تلامذته انّ هذا الشيخ كان اعجوبة في الحفظ والدقّة وسرعة الانتقال في الجواب والمناظرة وكان ثقة في النقل إماماً في عصره، وحيداً في دهره، أذعنت له جميع العلماء، وأقرّت بفضله جميع الحكماء وكان جامعاً لجميع العلوم علاّمة في الفنون حسن التقرير عجيب التحرير خطيباً شاعراً مفوّهاً، ونقل ما يقرب منه عن صاحب الحدائق.
وبالجملة كان هذا الشيخ الجليل معاصراً للمجلسي وهو قد روى الحديث بالمتن المطابق لرواية الشيخ في الطهارة تبعاً للجواهر على ما أفاده المستدرك، وكيف يمكن نسبة الغلط والتصحيف إليه بمجرّد مخالفة حديثه لنسخة المجلسي بعد انّه يحتمل ـ قوياً ـ وجود نسخة اُخرى عنده غير ما عند المجلسي.
وكيف كان فالرواية مختلفة المتن لا مجال للاتكال على خصوص نسخة أصلاً.
الجهة الثالثة: في دلالتها والإنصاف انّ دلالتها على حرمة عصير الزبيب بعد الغليان ـ لو أغمض عن سندها واختلاف متنها ـ تامّة، وما يقال: من انّ التعبير في ذيلها بالفساد دون التحريم ـ على نقل المجلسي ـ لا يبعد أن يستظهر منه صيرورته معرضاً لطرو الفساد والإسكار عليه فلا دلالة له على الحرمة، مدفوع بانّ المتفاهم عند العرف من التعبير بالفساد في لسان الشارع هو الحرمة وليس من شأن الإمام (عليه السلام) بيان ما لا يرتبط بالشرع من فساده تكويناً أو إسكاره كذلك.
وقد يتمسّك للتحريم بروايات اُخر:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: كل ع صير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. بدعوى شمولها ـ بمقتضى لفظ العموم ـ لعصير الزبيب أيضاً.
وفيه أوّلاً: انصراف العصير إلى خصوص العنبي، ويؤيّده انّه لا يصحّ أن يكون
(الصفحة 195)
مطلق العصير موضوعاً للحكم بالحرمة ولو مع قيد إصابة النار إيّاه، ودعوى انّه لا مانع من خروج ما خرج مدفوعة بلزوم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً فلابدّ من الحمل على خصوص العصير العنبي.
وثانياً: لو فرض العموم والشمول لكل عصير ـ من أيّة فاكهة كان لكن نقول العصير الزبيبي ليس بعصير أصلاً فانّ العصير ماء يخرج من جوف الفاكهة ـ مثلاًـ بالعصر والزبيب ليس مشتملاً على ماء أصلاً بل المراد بعصيره ـ كما عرفت ـ هو ماء نبذ فيه الزبيب واكتسب الحلاوة منه للمجاورة فهو ليس بعصير حقيقة فلا معنى لشمول الدليل له.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمّ يؤخذ الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به. والتعبير عنها بالصحيحة يبتني على وثاقة سهل بن زياد ـ كما هو الأصحّ ـ وهي تشتمل على تقرير الإمام (عليه السلام) السائل بما كان في ذهنه من حرمة عصير الزبيب قبل ذهاب ثلثيه ونفي البأس عنه بعد ذهابهما.
وفيه: انّ الظاهر انّ السائل لم يكن شكّه إلاّ من جهة انّ ماء الزبيب المطبوخ إذا ذهب ثلثاه وبقى ثلثه هل يجوز شربه في طول السنة أو انّه معرّض للفساد والإسكار ولا يجوز شربه. وبعبارة اُخرى: السؤال إنّما هو من جهة عروض الإسكار له أو عدمه بعد ذهاب ثلثيه ولا دلالة له على تحقّق التحريم بمجرّد الغليان وتوقّف رفعه على التثليث.
ومنها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال: إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً
(الصفحة 196)
(مأموناً) فلا بأس أن يشرب.
ونحوها: رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم انّه على الثلث فيحلّ شربه؟ قال: لا يصدق إلاّ أن يكون مسلماً عارفاً. بتقريب انّ الشراب ـ في الروايتين ـ بإطلاقه يشمل كل عصير ويستفاد منهما لزوم التثليث ولا وجه له إلاّ رفع الحرمة.
وفيه: انّهما بصدد بيان جواز الاعتماد على أخبار من يخبر بذهاب الثلثين في مورد يحتاج إليه وعدم جوازه ولا دلالة لهما على لزوم ذهابهما في كل عصير ولا تكونان بصدد بيانه أصلاً، مع انّ شمول «الشراب» لكل عصير لم يقم عليه دليل.
ومنها: موثقة عمّار أو مرسلته قال: وصف لي أبو عبدالله (عليه السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً فقال لي: تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ثمّ تصبّ عليه الماء إلى أن قال: فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث الحديث. فانّها ظاهرة في انّ الزبيب المطبوخ لا يصير حلالاً إلاّ بعد التثليث.
والإنصاف انّ إشعارها بذلك بل دلالتها عليه لا ينبغي المناقشة فيه أصلاً إلاّ انّ الرواية مردّدة بين الموثقة والمرسلة والمتن المذكور الدالّ على الحرمة انّما يكون سندها مرسلاً لا يجوز الاعتماد عليه، وامّا الموثقة فمتنها هكذا. قال: سُئل عن الزبيب كيف يحلّ طبخه حتّى يشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثمّ تطرح عليه اثنى عشر رطلاً من ماء إلى أن قال: ثمّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار الحديث. وهذا لا يكون ظاهراً في المدعى لأنّ محطّ نظر اسائل على هذا المتن هو انّ الزبيب كيف يطبخ حتّى يبقى عدّة أيّام كسنة أو أزيد من دون أن يعرضه الفساد والإسكار فهو نظير صحيحة علي بن جعفر ـ المتقدّمة ـ الواردة في السؤال عن طبخه بنحو يجوز أن يشرب منه السنة.
(الصفحة 197)
ومنها: الرواية الواردة في منازعة إبليس(لع) مع آدم ونوح (عليهما السلام) الدالّة على انّ ثلثا العنب له ـ لع ـ وثلثه لغيره.
وفيه: ما عرفت من منع دلالة مثلها على ذلك وإلاّ لكان اللازم أن يتحقّق التثليث في المادة العنبية مطلقاً وهو لا يلتزم به أحد.
فانقدح: من جميع ما ذكرنا انّه لا دليل على حرمة عصير الزبيب ونجاسته فهو طاهر وحلال بمقتضى قاعدتي الطهارة والحلّية وأوضح منه في الحكمين عصير التمر الذي يعبّر عنه بـ «النبيذ» لعدم توهّم جريان الاستصحاب التعليقي فيه أو دلالة روايات المنازعة عليه بوجه. نعم هنا روايات تدلّ على انّ النبيذ قسمين: مسكر وهو الحرام منه وغير مسكر وهو الحلال منه مثل:
صحيحة: معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ رجلاً من بني عمّي وهو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك. فقال: أنا أصف لك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام، قال: فقلت له: فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فردّ بكفّه مرّتين: لا، لا.
وصحيحة صفوان الجمّال قال: كنت مبتلى بالنبيذ معجباً به فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أصف لك النبيذ ؟ فقال: بل أنا أصف لك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلّ مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام الحديث.
وحديث وفد اليمن وفيه بعدما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) عن النبيذ وأطالوا في وصفه انّه (صلى الله عليه وآله) قال: يا هذا قد أكثرت عليّ أفيسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام.
وفي مقابلها رواية ظاهرها حرمته مطلقاً بمجرّد الغليان وهي ما عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) انّه قال: الحلال من النبيذ أن تنبذه وتشربه من يومه ومن الغد فإذا تغيّر فلا تشربه ونحن نشربه حلواً قبل أن يغلي. فإنّ الظاهر انّ
(الصفحة 198)
المراد من التغيّر فيها الغليان ويشهد له قوله (عليه السلام) في الذيل: «قبل أن يغلي».
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف سندها وإرسالها ـ انّه يمكن أن يكون المراد بالتغيّر الإسكار ويمكن أن يستشهد عليه بقوله (عليه السلام): «نحن نشربه حلواً قبل أن يغلي» حيث يشعر بأنّ عدم الشرب بعد الغليان ليس حكماً إلزاميّاً على الناس بل أهل البيت (عليهم السلام)كانوا لا يشربونه للزوم البعد الكثير بينهم وبين المسكر الذي ورد فيه ما ورد ـ فحينئذ ـ يكون التغيّر مقابلاً للغليان ويرجع إلى صيرورته مسكراً فلا منافاة بينها وبين الروايات المتقدّمة.
فتحصّل انّه لا دليل على حرمة النبيذ مطلقاً، وامّا نجاسته فقد يتمسّك لها بروايات:
منها: موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن النضوح قال: يطبخ التمر حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يمتشطن.
ومنها: موثقته الاُخرى عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتّى يحلّ؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله (فاسخنه ـ ظ) حتّى يذهب ثلثا ماء التمر.
وفي التمسّك بهما نظر لأنّ الظاهر انّ محطّ نظر السائل في الروايتين انّه كيف يصنع النضوح ـ وهو الطيب الخاص ـ حتّى لا يصير مع بقائه وصيرورته عتيقاً فاسداً ومسكراً فالأمر بإذهاب الثلثين يكون لدفع طروّ الفساد عليه.
وممّا ذكرنا ظهر انّ الأمر بالاغتسال منه في بعض الروايات انّما يكون مورده النبيذ المسكر ـ الذي عرفت نجاسته في المقام الثاني ـ والرواية هي ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أيصلح للمرأة أن تصلّي وهو على رأسها؟ قال: لا حتّى تغتسل منه. والشاهد عليه رواية علي