(الصفحة 200)
والظاهر عدم تمامية شيء من الوجوه الثلاثة:
أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه أوّلاً: عدم كون عنوان «الشرب» مستعملاً في مقابل «الأكل» دائماً بل كثيراً ما يطلق على معنى عام يشمل مثل شرب التتن أيضاً فضلاً عن المأكول، وثانياً لا نسلّم أن يكون الموضوع في جميع الروايات هو الشرب فانّ الحرمة قد علقت في بعضها على نفس العصير كما في صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ : «كل عصير أصابته النار فهو حرام» والإطلاق يشمل ما إذا صار العصير دبساً كما هو ظاهر.
وامّا الوجه الثاني فيرد عليه انّه حدس ظنّي لم يقم الدليل على اعتباره وليس لأخبار الباب ظهور في انّ الغاية من ذهاب الثلثين هي صيرورته كذلك وهل ترى من نفسك أن تقول بأنّه لو صبّ على العصير بعد غليانه مادّة مزيلة لمادّته الالكلية بحيث يقطع بأنّه لا يصير مسكراً يتحقّق له الحلّية بذلك الحصول الغاية المقصودة؟!
وامّا الوجه الثالث فيرد عليه انّ الانقلاب غايته أن يكون مطهّراً لا محلّلاً والكلام في الحلّية لا في الطهارة، ودعوى: انّ مراد الشهيد (قدس سره) من الانقلاب لعلّه هو الاستحالة وهي مغيّرة للموضوع رافعة للحكم بالحرمة، غير مسموعة إذ الاستحالة عبارة عن انعدام الشيء ووجود شيء آخر، وبعبارة اُخرى: الاستحالة هي تبدّل الشيء عمّا كانت شيئيته به من الصورة النوعية فهي انعدام صورة نوعية ووجود صورة اُخرى كاستحالة الكلب ملحاً والخشبة المتنجسة رماداً ومنه يظهر انّ إطلاق «المطهر» على الاستحالة وعدّها من جملة المطهّرات مبني على التسامح لأنّها مغيّرة للموضوع وبتبعه يتغيّر الحكم بمقتضى الأدلّة المثبتة للأحكام على العناوين والموضوعات. وامّا الانقلاب فهو عبارة عن تبدّل وصف إلى وصف آخر كتبدّل الحنطة خبزاً والخمر خلاًّ من دون أن يكون هناك تبدّل في الصورة النوعية،
(الصفحة 201)
وصيرورة العصير دبساً إنّما هي من مصاديق الانقلاب دون الاستحالة ولم يقم دليل على كونه محلّلاً بل ولا على كونه مطهّراً ـ كما سيأتي البحث عنه ـ نعم خرجنا عن ذلك في خصوص انقلاب الخمر خلاًّ وعكسه بالنص ولا يمكن التعدّي عن مورده إلى غيره.
والحاصل: انّه لا دليل على حلّية العصير قبل ذهاب الثلثين وإن صار دبساً وعدم إمكان التثليث في هذه الصورة أو إمكانه بنحو أفاده السيّد (قدس سره) في «العروة» من صبّ مقدار من الماء عليه فإذا ذهب ثلثاه يصير حلالاً لبعد سدّ الشارع طريق الاستفادة منه ـ حينئذ ـ فتأمّل لا يوجب تغييراً في أصل الحكم كما لا يخفى.
(الصفحة 202)
مسألة 11 ـ لا بأس بأكل الزبيب والتمر إذا غليا في الدهن أو جعلا في المحشي والطبيخ أو في الأمراق مطلقاً سيّما إذا شكّ في غليان ما في جوفهما كما هو الغالب 1.
1 ـ هذه المسألة مبتنية على ما قدّمناه في العصير الزبيبي والتمري وحيث قلنا بطهارتهما وحلّيتهما فلا مجال للإشكال في جواز أكلهما في الصور المذكورة في المتن.
وامّا على تقدير القول بالنجاسة في العصيرين فلابدّ من أن يفصل في المقام بين ما إذا اختلط الزبيب أو التمر مع ما كان فيه ماء أو شبهه وصار حلواً بذلك ولو كانت حلاوته قليلة فينجس وبين غيره سواء لم يكن فيه ماء أو كان ولكن لم يصرّ حلواً بذلك أصلاً فلا تتحقّق النجاسة لعدم كونه من العصير بوجه.
كما انّه على تقدير القول بالحرمة لابدّ أن يفصل ـ في خصوص ما كان فيه ماء بين ما إذا صار جميع الماء حلواً فيحرم لصيرورته عصيراً مغلياً ـ إلاّ أن يقال بأنّ العصير الزبيبي الذي يحرم بالغليان هو الذي صار حلواً قبل الغليان لا ما يصير كذلك حاله ـ وبين ما إذا صار المقدار القليل المجاور لهما من الماء حلواً فلا يحرم ويجوز الانتفاع بالجميع لاستهلاك المقدار القليل الحرام ولكن الذي يسهل الخطب انّ العصيرين محكومان بالطهارة والحلّية فضلاً عمّا إذا اختلط الزبيب والتمر بهذا النحو.
(الصفحة 203)
التاسع: الفقاع وهو شراب مخصوص متّخذ من الشعير غالباً، امّا المتّخذ من غيره ففي حرمته ونجاسته تأمّل وإن سمّي فقاعاً، إلاّ إذا كان مسكراً 1.
1 ـ لا ريب في نجاسة الفقاع وقد حكى ـ مستفيضاً ـ الإجماع عليها، وعن المدارك التأمّل في نجاسته حيث قال: وردت به رواية ضعيفة ، والظاهر انّ مراده منها هي رواية أبي جميلة البصري قال: كنت مع يونس ببغداد وأنا أمشي معه في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب يونس فرأيته قد اغتمّ لذلك حتّى زالت الشمس فقلت له: يا أبا محمّد ألا تصلّي؟ قال، فقال لي: ليس أريد أن اُصلّي حتّى أرجع إلى البيت فأغسل هذا الخمر من ثوبي، فقلت له: هذا رأي رأيته أو شيء ترويه؟ فقال: أخبرني هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفقاع فقال: لا تشربه فانّه خمر مجهول فإذا أصاب ثوبك فاغسله.
وهذه الرواية وإن نوقش فيها بضعف السند والإرسال إلاّ انّه يكون في المقام روايات معتبرة ظاهرة الدلالة:
كموثقة ابن فضّال قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الفقاع فقال: هو الخمر وفيه حدّ شارب الخمر. والمراد من قوله (عليه السلام) : «هو الخمر» انّه خمر تنزيلاً فيترتّب عليه جميع آثار الخمر وأحكامه التي منها النجاسة والتصريح بثبوت حدّ شارب الخمر فيه انّما هو لاحتياجه إلى التصريح به دفعاً لاستبعاد ثبوته فيه.
وموثقة عمّار بن موسى قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفقاع فقال: هو خمر.
ورواية محمد بن سنان عن حسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي أسأله عن الفقاع فقال: لا تقربه فانّه من الخمر.
وما عن حسن بن الجهم وابن فضّال قالا: سألنا أبا الحسن (عليه السلام) عن الفقاع فقال: هو خمر مجهول وفيه حدّ شارب الخمر.
(الصفحة 204)
وهل هذه التعبيرات تدلّ على كون الفقاع خمراً واقعاً بحيث كانت الروايات بصدد بيان انّ الخمر له عنوان عام يشمل الفقاع، وعليه فلابدّ في استفادة حكمه من الرجوع إلى الأدلّة الواردة في الخمر أيضاً أو انّها تدلّ على مجرّد التنزيل منزلته حكماً؟ والحق هو الثاني لعدم كون الفقاع خمراً حقيقة ولم يسم باسم الخمر عرفاً ولغةً ومن أجله قد اتّفق أهل الخلاف على عدم حرمته مع اتّفاقهم على حرمة الخمر. مضافاً إلى انّه يستفاد ذلك من الأخبار وكلمات الأصحاب:
امّا الأخبار فقد تقدّم الكلام فيها وعرفت انّ الظاهر منها انّ الخمر اسم للمادّة المأخوذة من العنب، وفي بعضها انّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها بل حرّمها لعاقبتها وقد وردت جملة منها في منازعة آدم وابليس في شجر العنب.
وامّا كلمات الأصحاب فبعضها ظاهرة في ذلك لأنّ مقابلة المسكرات للفقاع في كلماتهم ظاهرة في انّ الفقاع بعنوانه موضوع للحكم لا للإسكار، ولا لصدق اسم الخمر عليه، ولذا لم يستدلّوا في مقابل العامّة القائلين بالحلّية بالكتاب الظاهر في حرمة الخمر مع انّه لو أمكن لاستدلّوا به بل كان هذا الاستدلال واقعاً في الروايات أيضاً، وبعضها كالصريحة في ذلك فعن الانتصار: «ممّا انفردت به الإمامية القول بتحريم الفقاع وانّه جار مجرى الخمر في جميع الأحكام».
ثمّ إنّه بعد عدم كونه من مصاديق الخمر حقيقة فلا محيص من حمل الروايات الدالّة على انّ الفقاع خمر أو من الخمر أو خمر استصغره الناس كما في رواية الوشاء قال: قال أبو الحسن الأخير (عليه السلام): حدّه ـ أي الفقاع ـ حدّ شارب الخمر وقال: هي خمرة استصغرها الناس. على نحو من التنزيل فيدور الأمر بين احتمالين:
أحدهما: البناء على التنزيل بلحاظ جميع الآثار والأحكام.
وثانيهما: التنزيل بلحاظ أظهر الخواص والآثار. ربّما يقال بأولية الثاني لأنّ