(الصفحة 206)
ولو فرض صدقه مطلقاً فظاهر بعض الأخبار التفصيل بين الصورتين كصحيحة ابن أبي عمير عن مرازم قال: كان يعمل لأبي الحسن (عليه السلام) الفقاع في منزله قال ابن أبي عمير: ولم يعمل فقاع يغلى. والظاهر انّ ابن أبي عمير كان بصدد دفع توهّم عمل الفقاع الحرام.
وموثّقة عثمان بن عيسى قال: كتب عبدالله بن محمد الرازي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : إن رأيت أن تفسّر لي الفقاع فانّه قد اشتبه علينا أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه السلام) : لا تقرب الفقاع إلاّ ما لم يضرّ آنيته أو كان جديداً. فأعاد الكتاب إليه: كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل فأتاني ان اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار ولم أعرف حدّ الضرارة والجديد وسُئل أن يفسّر ذلك له، وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني. فكتب (عليه السلام) : يفعل الفقاع في الزجاج وفي الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات ثمّ لا يعدّ منه بعد ثلاث عملات إلاّ في إناء جديد والخشب مثل ذلك.
والظاهر انّ النهي عن هذه الظروف انّما هو لأجل حصول النشيش والغليان له إذ نبذ فيها، ويمكن أن يكون لأجل حصول الإسكار له فيها إلاّ انّه مجرّد احتمال لا يمكن رفع اليد به عن إطلاق الأدلّة وشمولها للمسكر منه وغيره مع جعل الفقهاء إيّاه في مقابل المسكرات عنواناً مستقلاًّ ونجساً على حدة، وتصريح بعض أهل اللغة بأنّه ليس بمسكر أصلاً فالحرمة والنجاسة فيه كل واحدة مشروطة بالغليان فقد دون الإسكار، وعدم تفصيل الفقهاء بين الحالتين لعلّه لعدم كونه فقاعاً عندهم قبل الغليان والله أعلم.
ثمّ إنّه وقع الاختلاف بينهم ـ بعد الاتفاق على كون المتّخذ من الشعير على وجه مخصوص فقاعاً ـ في اختصاص عنوان الفقاع بذلك وعدمه، والأوّل محكي عن
(الصفحة 207)
علم الهدى (قدس سره) قال في الانتصار: «قد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة انّ قوماً من العرب سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الشراب المتّخذ من القم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يسكر؟ قالوا: نعم، فقال: لا تقربوه ولم يسئل عن الشراب المتّخذ من الشعير عن الإسكار بل حرم ذلك على الإطلاق».
ويظهر من المحكي عن الشهيد (قدس سره) انّ الفقاع كان يعمل في السابق من ماء الشعير، وفي زمانه (قدس سره) قد يعمل من الزبيب أيضاً. وعن «مخزن الأدوية» انّه يعمل من أكثر الحبوبات ومن العسل والخبز.
والحاصل: انّه مفهوم مردّد بين خصوص ما يعمل من ماء الشعير وبين ما يعمّ ذلك وما يتّخذ من غيره والمرجع ـ حينئذ ـ البراءة عن لزوم الاجتناب عن غير ما هو القدر المتيقّن منه وقاعدتا الطهارة والحلّية ـ كما هو الحال في جميع الموارد التي يدور الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر ـ .
ودعوى استعمال الفقاع في غير ما يتّخذ من ماء الشعير أيضاً فيدور الأمر بين كونه حقيقة فيه أيضاً أو مجازاً أو منقولاً والأصل عدم النقل وعدم تحقّق المجاز.
مدفوعة: بأنّ تقديم الاشتراك على المجاز أو العكس أو تقديمه على النقل أو النقل عليهما وكذا ما يشابه ذلك من الترجيحات المشهورة المذكورة في الكتب الاُصولية سيّما القديمة منها ممّا لا يرجع إلى محصل ولم يدل عليه دليل كما اعترف به المحقّق الخراساني (قدس سره) في مباحث الألفاظ من «الكفاية» مع انّ هذه الاُصول لا تكون شرعية بوجه ولا عقلائية. نعم أصالة عدم النقل من الاُصول العقلائية لكن لا يلتزم العقلاء بمثبتاتها ولا يتمسّكون بها في جميع الموارد كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد انقدح ممّا ذكرنا انّ المتّخذ من الشعير على وجه مخصوص الذي يسمّى بالفقاع يكون حراماً وإن لم يكن مسكراً فلا فرق بين ثبوت السكر الخفيف فيه كما
(الصفحة 208)
ربّما يقال وعدمه، كما انّه ظهر انّ المتّخذ من غير ماء الشعير ليس بحرام ولا نجس إلاّ إذا كان مسكراً لعدم ظهور إطلاق عنوان الفقاع عليه، وامّا ماء الشعير الذي يستعمله الأطبّاء في معالجاتهم فهو ليس من الفقاع بل طاهر وحلال فانّ الفقاع هو المتّخذ من ماء الشعير على وجه مخصوص يعرفه أهله ولا يكون كلّ ماء الشعير فقاعاً.
(الصفحة 209)
العاشر: الكافر: وهو من انتحل غير الإسلام، أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو تنقيص شريعته المطهّرة، أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل، من غير فرق بين المرتدّ والكافر الأصلي، الحربي والذمّي، وامّا النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان من غير توقّف ذلك على جحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة، وامّا الغالي فإن كان غلوّه مستلزماً لإنكار الإلوهية أو التوحيد أو النبوّة فهو كافر وإلاّ فلا 1 .
1 ـ الكلام في هذا النوع يقع في مقامات:
المقام الأوّل: هل الكافر في الجملة نجس أم لا؟ وبعبارة اُخرى هل يكون الكافر نوعاً من أنواع النجاسات في مقابل الأنواع الاُخر أم لا؟ ونقول: إنّ الحكم بنجاسة الكفّار ـ في الجملة ـ ممّا لا ينبغي الإشكال فيه، وهو ممّا انفردت به الإمامية ـ كما قال به السيّد المرتضى ـ ، ومن شعار الشيعة بحيث إنّ جميع الشيعة يعرفون انّ هذا مذهبهم ـ كما عن حاشية المدارك ـ ، وممّا انعقد عليه إجماع الشيعة ـ كما عن صريح المنتهى وظاهر التذكرة ـ وعليه إجماع المسلمين المفسّر بالمؤمنين ـ كما عن التهذيب ـ وبالجملة لا يرى مخالف في المسألة من الإمامية.
نعم ذهب العامّة إلى طهارتهم ولم يلتزم بنجاسته منهم إلاّ القليل كالفخر الرازي فانّه نقل عن صاحب الكشّاف عن ابن عبّاس ان أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ثمّ نقل اتّفاق الفقهاء على الطهارة ثمّ قال ظاهر القرآن يدلّ على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلاّ بدليل منفصل ولا يمكن ادّعاء الإجماع فيه لما بيّنا انّ الاختلاف فيه حاصل.
وكيف كان يدلّ على نجاسته ـ في الجملة ـ بعد الإجماع بل ضرورة المذهب، من
(الصفحة 210)
الكتاب، الآية الكريمة: (انّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)(1) الآية. وقد وقعت هذه الآية الكريمة مورد التنازع بين الأصحاب من جهة انّ المراد من المشركين فيها هل هو جميع المشركين، أو صنف مخصوص منهم، ومن جهة انّها هل تدلّ على نجاستهم بالنجاسة المصطلحة عند المتشرّعة أم لا، وبعبارة اُخرى هل المراد من النجس ـ بالفتح ـ هو النجس ـ بالكسر ـ الاصطلاحي أو يكون بينهما فرق؟
والتحقيق في هذه الجهة الأخيرة ثبوت الفرق بينهما فانّ النجس ـ بالكسر ـ صفة مشبهة كالقذر ـ بالكسر ـ ويقوم مقام اسم الفاعل بخلاف النجس ـ بالفتح ـ فانّ الظاهر انّه اسم المصدر وعنوانه عنوان المصدر كالنجاسة، وإذا حمل على ذات فهو من باب حمل المعنى على الذات ويشعر بالمبالغة نحو زيد عدل.
فانّه يدلّ على انّ زيداً متمحّض في العدالة ولا مغايرة بينه وبينها وهذا واضح لا كلام فيه.
انّما الكلام في انّه هل للشارع في النجس ـ بالفتح ـ اصطلاح مخصوص وله معنى عنده غير معناه الحقيقي بأن يكون له حقيقة شرعية مغايرة للمعنى اللغوي والعرفي أم لا؟
والإنصاف: انّه لا دليل لنا على إثبات هذا المطلب ومن البعيد أن يكون للشارع في النجاسة والقذارة اصطلاح خاص مغاير للمعنى المقصود لدى العرف لا سيّما مع ملاحظة انّه لم تستعمل هذه المادّة في الكتاب الكريم إلاّ في هذه الآية الشريفة فانّه كيف يتحقّق مع استعماله دفعة واحدة وكيف يثبت الاصطلاح بمثل ذلك، فمعنى