(الصفحة 229)
وثانياً: لو كان المراد من الطعام ما يكون مطبوخاً وكانت الآية مسوقة لبيان حلّيته ـ مطلقاً ـ فلابدّ من الالتزام بدلالة الآية على حلّية طعامهم حتّى فيما إذا كان بعض موادّه حراماً كالميتة ولحم الخنزير، إذ ليست الحلّية من جهة الطباخ أولى منها من جهة المادّة بالنظر إلى الآية الكريمة على هذا التقدير مع انّه ممّا لا يمكن أن يتفوّه به فلا محيص عن حمل الآية على ما ذكرنا بعد كونه موافقاً لمعنى الطعام على ما عرفت.
إن قلت: لو كان كذلك فما وجه تخصيص أهل الكتاب بذلك فإنّ طعام المشركين والحنطة المرتبطة بهم أيضاً حلال.
قلت: وجه التخصيص أحد أمرين امّا وقوع السؤال عن خصوصهم كما في قوله تعالى: (يسألونك ماذا اُحلَّ لهم)(1) وامّا كونهم محلّ الابتلاء للمسلمين فإنّ الآية قد نزلت في أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة وقد كان المسلمون في ذلك العصر معاشرين لأهل الكتاب ولم يكن للمشركين عدّة وعدّة أصلاً.
وبالجملة قوله تعالى: (اليوم اُحلَّ لكم الطيّبات) مسوق لبيان حلّية الطيّبات بما هي طيّبات، وقوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم)مسوق لبيان حلية طعامهم بما هو طعامهم وإنّ مالكه أهل الكتاب، كما انّ قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لكم) مفاده حلّية طعام المسلمين لهم بالنقل إليهم.
وبهذا يظهر الخلل فيما أفاده الفاضل المقداد صاحب كنز العرفان ـ وهو أوّل كتاب قد اُلِّف في آيات الأحكام ـ من انّ قوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم) ذكر الخاص بعد العام ولابدّ له من نكتة لا نفهمها. فانّك عرفت عدم
(الصفحة 230)
كونه من هذا الباب وثبوت المغايرة بين الأمرين.
وقد ذهب العامّة إلى انّ «الطعام» في الآية بمعنى الذبيحة وتبعهم في ذلك بعض أصحابنا الإمامية، وعليه فيمكن الاستدلال بها على حلّية ذبيحة أهل الكتاب.
ولكن يرد عليهم انّ الطعام لا يكون بمعنى الذبيحة لا لغةً ولا اصطلاحاً، مع انّه لو كان بمعنى الذبيحة لا يترتّب على قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لهم) أثر. فانقدح انّ الآية أجنبية عن الدلالة على طهارة أهل الكتاب أو حلّية ذبائحهم.
الوجه الثاني: دلالة كثير من الروايات على طهارتهم وقد تقدّمت جملة منها كصحيحة عيص بن القاسم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إذا كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس» ورواية زكريا بن إبراهيم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «كُلْ معهم واشرب» وصحيحة إسماعيل بن جابر التي فيها هذه العبارة الشريفة: «ولا تتركه تقول انّه حرام» وغيرها من الروايات التي يمكن الاستشهاد بها على الطهارة.
وامّا ما لم يتقدّم فمنها ما ورد في جواز تزويج الكتابية استدامة أو متعة وجواز كون المرضعة كتابية، وجواز تغسيل الذمّي الميّت المسلم مع عدم المسلم أو عدم إقدامه على التغسيل أو عدم إمكانه له.
ومنها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم انّها نصرانية لا تتوضّأ ولا تغتسل من الجنابة؟ قال: لا بأس تغسل يديها. وهذه صريحة في عدم نجاستها ذاتاً لأنّها لو كانت نجسة بالنجاسة الذاتية لما كان غسل اليدين رافعاً لها بل موجباً لسرايتها بل يظهر من الرواية انّ عدم النجاسة الذاتية كان مفروغاً عنه عند السائل لأنّ الشبهة العارضة له انّما كانت من جهة عدم التوضّي والاغتسال من الجنابة. والظاهر انّ المراد ليس هو الوضوء والغسل بل نفس استعمال الماء لإزالة خبث البول والغائط والمني.
(الصفحة 231)
ومنها: صحيحته الاُخرى: قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الخيّاط أو القصّار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم انّه يبول ولا يتوضّأ؟ قال: لا بأس.
وهذه الرواية وإن أمكن حملها بالإضافة إلى خصوص الخيّاط على صورة عدم العلم بالملاقاة رطباً إلاّ انّها بالنسبة إلى القصّار لامجال لهذا الحمل فيها لأنّه يغسل الثوب بيده فنفي البأس يستفاد منه طهارته وعدم تنجّس الثوب بقصارته الملازمة للملاقاة مع الرطوبة.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الروايات التي استدلّ بها على النجاسة لا يمكن الاستناد بها عليها لعدم تماميتها من حيث الدلالة وانّ أخبار الطهارة ظاهرة الدلالة فلا وجه لتوهّم المعارضة بينهما ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) حيث اعتقد ثبوت المعارضة بينهما ولزوم الرجوع إلى الأخبار العلاجية في الباب قال: «إنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله ـ عزّ من قائل ـ : (انّما المشركون نجس)وموافقة للعامّة فانّهم صرّحوا بطهارة الآدمي مطلقاً، وأخبار النجاسة موافقة للكتاب ومخالفة للعامّة وقد بيّن في محلّه انّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات، وقد ورد في رواياتنا الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين، ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقية».
وقد تعجّب من صاحب المدارك (قدس سره) واعترض عليه اعتراضاً شديداً وقال: إنّ قاعدة حمل الظاهر على النص ممّا أحدثوه بعقولهم ولا دليل عليه من كتاب أو سنّة وهي جرأة واضحة لذوي الألباب، إلى أن قال: ما هذا إلاّ عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.
وقال سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في «رسالة النجاسات» بعد ذكر
(الصفحة 232)
أخبار الباب التي استدلّ بها على النجاسة «فتحصّل من جميع ذلك انّ لا دليل على نجاسة أهل الكتاب ولا الملحدين ما عدى المشركين بل مقتضى الأصل طهارتهم بل قامت الأدلّة على طهارة الطائفة الاُولى، إلى أن قال: فالمسألة مع هذه الحال التي نراها لا ينبغي وقوع خطأ عمّن له قدم في الصناعة فيها فضلاً عن أكابر أصحاب الفن ومهرة الصناعة فكيف بجميع طبقاتهم، ومن ذلك يعلم انّ المسألة معروفة بينهم من الأوّل وأخذ كل طائفة من سابقتها وهكذا إلى عصر الأئمّة (عليهم السلام)والتمسّك بالأدلّة أحياناً ليس لابتناء الفتوى عليها. ولقد أجاد العَلَم المحقّق صاحب الجواهر ـ قدّس الله نفسه ـ حيث قال: فتطويل البحث في المقام تضييع للأيّام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم، وتعريض بعض الأجلّة عليه وقع في غير محلّه».
ويمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة مع الأخبار المتعارضة التي عرفتها بوجه ثالث، وهو انّ روايات الطهارة وإن كانت تامّة من حيث السند والدلالة إلاّ انّ إعراض المشهور عنها يوجب سقوطها عن الاعتبار والحجّية، فإنّ الإعراض موجب للسقوط فيما إذا لم يكن هناك معارض ففي المقام الذي يكون المعارض موجوداً يوجب السقوط بطريق أولى فالترجيح لا محالة مع أخبار النجاسة هذا غاية ما يمكن أن يقال تأييداً لهذا القول الموافق للمشهور كما عرفت.
والتحقيق إنّ شيئاً من الوجوه الثلاثة التي قد ذكرت لترجيح أخبار النجاسة لا يكون تامّاً:
امّا ما أفاده صاحب الحدائق (قدس سره) فيرد عليه أوّلاً انّه قد فرض في كلامه ثبوت المعارضة بين الروايات الواردة في الباب وتمامية دلالة بعضها على النجاسة وبعضها على الطهارة مع انّك عرفت عدم تمامية شيء من أخبار النجاسة من حيث الدلالة والتعارض انّما يكون بعد تمامية دلالة الخبرين المتعارضين فلا وجه
(الصفحة 233)
للرجوع إلى الأخبار العلاجية.
وثانياً: إنّ أخبار النجاسة ـ على فرض الدلالة ـ تكون ظاهرة فيها بخلاف أخبار الطهارة فانّها لو لم تكن نصّاً فيها فلا أقلّ من أن تكون أظهر في مفادها من أخبار النجاسة، وتقديم النص أو الأظهر على الظاهر ـ مع انّه ممّا اتفق عليه عند العقلاء والعرف الذين هم الملاك في فهم المرادات من الألفاظ والروايات ـ انّما تكون واردة على طبق هذه القاعدة ومثلها ممّا لا محيص عنه ولولاه يكون قولك: «رأيت أسداً يرمي» مجملاً من حيث المراد لأنّ لفظة «يرمي» ظاهرة باعتبار كون الرمي رمي السهم المتحقّق باليد في الرجل الشجاع، و«الأسد» ظاهر في الحيوان المفترس غاية الأمر انّ الدلالة الاُولى أظهر من الثانية ولأجل تقدّم عليها فلا وجه لإنكار القاعدة ونفيها وإلاّ يلزم سدّ باب المحاورات وإفادة المرادات في كثير من المقامات فتدبّر.
نعم لو تحقّق التعارض المتوقّف على أصل الدلالة واتحاد مرتبتها لكان تقديم أخبار النجاسة لأجل الموافقة للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما قرّر في محلّه ـ لا لأجل كون أخبار الطهارة مخالفة للكتاب مضافاً إلى ما عرفت من عدم دلالة الكتاب على نجاسة غير المشركين ولم يثبت انّ أهل الكتاب بأجمعهم يكونون مشركين، نعم مثل القائل بالأقانيم الثلاثة أو ثبوت الابن لله تعالى وتصرّفه في عالم الوجود مستقلاًّ يكون مشركاً.
وامّا ما أفاده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ من استظهار عدم استناد الأصحاب في الفتوى بالنجاسة إلى اخبارها لعدم تمامية دلالتها على ذلك ففيه:
أوّلاً: انّا إذا راجعنا كلمات الأصحاب لا نرى انّ أحداً منهم تفوّه بأن المسألة لا تحتاج إلى إقامة الدليل على النجاسة فيها بل نرى استنادهم فيها إلى الأخبار جدّاً