(الصفحة 238)
وهذه الشهرة صارت مانعة لبعض المحقّقين عن الفتوى الصريح بالطهارة وأوجبت الالتزام بالجمع بين الأدلّة بطريق آخر حيث قال في «مصباحه»: «إنّ الحقّ انّ المسألة في غاية الإشكال ولو قيل بنجاستهم بالذات والعفو عنها لدى عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى معاشرتهم ومساورتهم أو معاشرة من يعاشرهم كما يؤيّدة أدلّة نفي الحرج ويشهد له صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الدالّة على جواز الوضوء بما باشره اليهودي والنصراني لدى الضرورة والمنع منه في غيرها لم يكن بعيداً عمّا يقتضيه الجمع بين الأدلّة، وقد التزم بذلك صاحب الحدائق (قدس سره) في العامة حيث قال بنجاستهم والعفو عنها لدى عموم الابتلاء بهم لمكان الحرج والله تعالى عالم بحقائق أحكامه».
وأنت خبير بأنّ هذا الجمع ممّا لا مانع منه لو كانت أخبار النجاسة تامّة دلالة وقد عرفت عدم تماميتها.
ثمّ إنّه لو بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتضى الأدلّة المتقدّمة فغير خفي انّ تلك الأدلّة تختص باليهود والنصارى والمجوس ويحتاج الحكم بالنجاسة في بقيّة أصناف الكفّار كمنكر الضروري من المسلمين إلى دليل وهو مفقود. وامّا المرتدّ فإن صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب فهو محكوم بحكمه كما إذا ارتدّ بتهوّده أو تنصّره أو تمجّسه، وامّا إذا لم يصدق عليه شيء من تلك العناوين فهو وإن كان كافراً ـ كما سيجيء في البحث عن معنى الكافر ـ إلاّ انّ الحكم بنجاسة ما لم يكن مشركاً مشمولاً للآية الكريمة مشكل جدّاً.
وقد يستدلّ على نجاسة بقيّة أصناف الكفّار بالأولوية بدعوى انّ أهل الكتاب لو كانوا محكومين بالنجاسة مع اعتقادهم لأصل التوحيد والنبوّة العامة فمن ينكر أصل وجود الصانع أو التوحيد أو النبوّة فهو نجس بطريق أولى.
(الصفحة 239)
ولا يخفى انّ هذه الأولوية مسلمة بالإضافة إلى بعض أصناف الكفّار كالمذكورين في مقام الاستدلال وامّا بالنسبة إلى البعض الآخر كالمرتدّ غير المشرك أو منكر الضروري من المسلمين فلا مجال لها وعليه فتعميم الحكم بالنحو المذكور في المتن مشكل ولو التزمنا بنجاسة الذمّي أيضاً.
المقام الثالث: في معنى الكافر والمراد منه وقد صرّح في المتن بأنّه من انتحل غير الإسلام أو جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) أو تنقيص الشريعة أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل والظاهر انّ المراد من القسم الأخير هو صدور القول أو الفعل بمجرّده وإن لم يعلم بكونهما ناشيين عن الاعتقاد كما انّ المراد بالأوّلين هو الاعتقاد في الانتحال أو الجحد وهذا انّما يبتني على عدم كون الكفر أمراً اعتقادياً محضاً بل قد يكون بالقول أو الفعل لكن أخذ «الكفر» في تعريف الكافر وبيان المراد منه ـ مع انّه أخذ الشيء في تعريفه ـ ربّما يشعر بخلاف ما ذكر فتدبّر.
والتحقيق في هذا المقام انّ «الكفر» عنوان في مقابل عنوان «الإسلام» فمن لا يكون مسلماً يكون كافراً لا محالة سواء كان منكراً لوجود الصانع تعالى أو لم يتوجّه إليه أصلاً أو توجّه وكان شاكّاً في وجوده ـ والدليل على نجاسة هؤلاء الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لأنّه لو كان المشرك المعتقد بأصل وجوده تعالى نجساً فمن كان منكراً له أو غير متوجّه إلى أصل وجوده حتّى يعتقده نفياً أو إثباتاً، أو شاكّاً فيه بعد التوجّه والالتفات يكون نجساً بطريق أولى ـ أو كان منكراً لنبوّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان معتقداً بالنبوّة العامّة، أو جعل شريكاً لله تعالى في الذات أو في تدبير العالم وإدارته أو في مقام العبادة فالمشرك على ثلاثة أقسام: الأوّل: المشرك بحسب الذات القائل بتعدّد واجب الوجود وعدم كون الوجوب ملازماً للوحدة
(الصفحة 240)
وعدم قيام دليل عليها. الثاني: المشرك في الأفعال وهو الذي جعلشريكاً له تعالى في الأفعال وتدبير العالم. الثالث: المشرك في مقام العبادة كالمشركين المعاصرين لزمان البعثة ونزول الوحي.
ولابدّ في توضيح معنى الشرك في العبادة من بيان معنى العبادة وأقسامها فنقول: إنّها قد تطلق على مجرّد الإطاعة والتبعية كقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان)(1) وقد تطلق على الخضوع والتذلّل كقوله تعالى حكاية: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(2) أي خاضعون ذليلون وهذان المعنيان غير المعنى الذي تكون العبادة منصرفة إليه عند الإطلاق وتستعمل فيه بنحو الشيوع، والمعنى الشائع المنصرف إليه هو التخضّع في مقابل المعبود بعنوان الإلوهية وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في مقام التعليم: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)(3) الظاهر في الانحصار به تعالى والمشركون في عصر الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ويجعلونها آلهة ويتوهّمون انّ الإنسان لا يمكن له أن يتقرّب بنفسه إلى الله الخالق للسماوات والأرض الوحيد في ذاته وفعله وانّ الأصنام قادرة على أن يشفعوا لهم عند الله ويقرّبهم إلى الله زلفى. ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ كلمة التوحيد الموجبة للفلاح والخروج عن ظلمة الشرك إنّما تكون ناظرة إلى التوحيد في العبادة وانّ المراد بالأدلّة المنفي فيها هو الصالح للعبودية لشيوع الشرك في العبادة في ذلك العصر.
لا يقال: إنّ ما يعتقده الشيعة الإمامية بالإضافة إلى أئمّتهم (عليهم السلام) من كونهم شفعاء
- 1 ـ يس : 60 .
2 ـ المؤمنون: 47 .
3 ـ الفاتحة : 5 .
(الصفحة 241)
عند الله تعالى وما يراعونه من احترام قبورهم المقدّسة وزيارتهم وتقبيل الضرائح الموضوعة عليها وطلب الحاجة منهم لعلّه يشبه الشرك كما هو معتقد فرقة ضالّة من العامّة العمياء وبعض من ينتحل التشيّع ممّن لا تحصيل له ولأجله يتحرّك بحركة تلك الفرقة وتقلّبه الأيادي السياسية التي هدفها المحض تفرقة الشيعة وإيجاد الاختلاف بينهم لئلاّ ينتشر مرامهم الذي هو المرام الوحيد الذي يقبله العقل السليم ويؤيّده العلم العصري مع بلوغه إلى المرتبة التي لا يتوقّع مثلها.
لأنّا نقول: وإن كان البحث الفقهي لا يناسب هذه المباحث إلاّ انّ الإشارة الإجمالية الموجزة لعلّها لم تكن خالية عن المناسبة خصوصاً بعد ملاحظة إمكان التأثير في بعض القلوب الصافية غير المظلمة على حقيقة الأمر فنقول:
امّا احترام قبورهم وزيارتها وتقبيل الضرائح المقدّسة فهو ـ مضافاً إلى انّه ليس بشرك ـ دليل على كمال التوحيد لأنّه ـ مضافاً إلى عدم كونه عبادة فانّ احترام القبر وزيارته والتقبيل أمر والعبادة أمر آخر فهل ترى انّ احترام العالم الحي عبادة له أو انّ زيارة المؤمن كذلك التي هي من المستحبّات الشرعية تعدّ عبادة له، أو انّ تقبيل الطفل محبّة أو الرجل المحترم احتراماً وتعظيماً عبادة له فكيف يتفوّه بذلك فيما يتعلّق بالقبور المقدّسة وهل فرق بين تقبيل الحجر الأسود الذي هو من المستحبّات وتقبيل الضرائح المقدّسة؟! وهل يمكن أن يتوهّم أحد انّ الأوّل مع كونه شركاً صار مستثنى ؟! وهل الشرك يمكن أن يقع الاستثناء من حكمه مع انّه لا يغفر أن يشرك به؟! ـ يكون كاشفاً عن التعظيم وتكريم جماعة أكرمهم الله بتاج الكرامة واصطفاهم للخلافة والولاية بما انّهم كذلك ففي الحقيقة يكون تكريمهم لإضافتهم الخاصّة إلى الله تعالى وقربهم في نظره وهذا دليل على كمال التوحيد.
وامّا التوسّل إليهم وجعلهم شفعاء وطلب الحاجة منهم فلأجل انّ الله تعالى قد
(الصفحة 242)
أعطاهم هذه المزايا وفضّلهم بهذه الفضائل ومع ذلك يصدر الجميع بإذن الله فهل ترى من نفسك انّ مولى من الموالي العرفية إذا أعطى عبده دراهم وجعلها باختياره في أن يصرفه في أي فقير شاء فإذا اطلع فقير على ذلك وطلب من العبد درهماً مثلاً يكون هذا الطلب منافياً لمقام المولى ومضادّاً لمولويته وشركاً له؟! فالله تعالى أقدر الأئمّة (عليهم السلام) على التصرّف في العالم وجعلهم شفعاء فالتوسّل إليهم وطلب الحاجة منهم في الحقيقة إمضاء لفعل الله وتسليم لعنايته لا انّه شرك ومضاد للألوهية والخالقية.
نعم لا مجال لإنكار انّ السجود لغير الله محرّم شرعاً لقوله تعالى: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ)(1) فمن سجد لغير الله ارتكب محرماً لكن نقول:
أوّلاً: انّه لم نر أحداً من الشيعة مع اختلاف طبقاتهم في العلم والمعرفة وثبوت الخواص والعوام بينهم أن يسجد للأئمّة (عليهم السلام) أو لقبورهم المطهّرة والشاهد الوجدان.
وثانياً: انّ الكلام في الشرك وهو أمر لا يلائم الاستثناء بوجه، والسجود لغير الله غايته انّه محرم وليس كل حرام موجباً للشرك والدليل على عدم كونه شركاً انّ السجود لآدم كان مأموراً به للملائكة بأجمعهم والشيطان الذي كان من الجنّ ولو كان السجود لغير الله شركاً كيف يمكن أن يكون مأموراً به وهل يجتمع الأمر بالشرك ولو في مورد مع عدم صلاحية الشرك للمغفرة أصلاً، فلو فرض انّ الشيعة تسجد للأئمّة (عليهم السلام) فغايته تحقّق الفعل الحرام لا الشرك غير القابل للغفران نعوذ بالله من الجهل وعدم العرفان.