(الصفحة 250)
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا انّ عدم الإقرار بالصانع أو بالوحدانية في الذات أو في الفعل أو في العبادة يوجب تحقّق مفهوم الكفر بلا إشكال، كما انّه ظهر من الروايات المتقدّمة إنّ إنكار الرسالة أيضاً موجب للكفر وانّ الإسلام يتقوّم بالإقرار بالشهادتين ويدلّ على الثاني أيضاً قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اُعدّت للكافرين)(1) فإنّ ظاهرها إنّ إنكار إعجاز القرآن الملازم لإنكار الرسالة بل مجرّد الريب وعدم الإقرار موجب لتحقّق عنوان الكفر كما لا يخفى.
والظاهر انّ إنكار الخاتمية لا يكون سبباً للكفر في مقابل إنكار الرسالة بل إيجابه للكفر انّما هو من جهة استلزامه لإنكار الرسالة فانّ الخاتمية من ضروريات دين الإسلام وملازمتها له من الواضحات والقرآن معجزة خالدة أبدية ونفسه تدلّ على اتصافه بهذه الصفة فإنكار الخاتمية ملازم لإنكار الرسالة ولا دليل على استقلاله في حصول الكفر.
وامّا إنكار المعاد فلم يقع التعرّض له في كلمات الأصحاب من جهة كونه سبباً مستقلاًّ لحصول الكفر أو كونه مستلزماً لإنكار الرسالة فلا يكون مستقلاًّ في السببية؟ قال بعض الأعلام: إنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً وقد قرن الايمان به بالايمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد كما في قوله عزّوجلّ: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(2) وقوله تعالى: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم
- 1 ـ البقرة : 23 .
2 ـ النساء : 59 .
(الصفحة 251)
الآخر)(1) وقوله تعالى: (انّما يعمّر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)(2).
وفيه: إنّ صرف المقارنة بين الايمان به والايمان بالله لا دلالة له على انّ إنكاره سبب لتحقّق الكفر مستقلاًّ فانّه ـ مضافاً إلى عدم كون المقارنة في جميع الموارد كقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون إلى قوله تعالى: وبالآخرة هم يوقنون)(3) فانّك ترى عدم المقارنة في الآية ـ تكون المقارنة في بعض الآيات لأجل كونها بصدد بيان حال المؤمنين وتعريف الايمان دون الإسلام والمسلمين، وفي مقام بيان بعض الآثار التي يكون الايمان باليوم الآخر دخيلاً فيها.
وبالجملة: إنّ تلك الآيات المشتملة على المقارنة مسوقة لبيان مثل أوصاف المتّقين والعامرين للمساجد والمستحقّين لأنعُم الله في الدار الآخرة لا لبيان أركان الإسلام ـ في مقابل الكفر ـ الذي يكون من آثاره الطهارة وحقن الدماء فكيف يمكن أن يرفع اليد بسببها عن الروايات الكثيرة الدالّة على انّ الإسلام هو الإقرار بالشهادتين أو الالتزام بتقييدها بها. نعم قد عرفت انّه لا محيص عن الالتزام بكون إنكار المعاد موجباً للكفر لأنّ الاعتقاد به من ضروريات الإسلام بحيث لا يكاد يخفى على من اعتقد بالنبي ومعجزته الباهرة فإنكاره يستلزم إنكار النبوّة ولأجله يوجب الكفر فلا يكون له موضوعية أصلاً.
بقي الكلام في هذا المقام في إنكار ضروري من ضروريات الدين وانّه هل يكون سبباً للكفر مستقلاًّ فيوجب تحقّق الكفر ولو لم يلتفت إلى كونه ضرورياً
- 1 ـ البقرة: 232 .
2 ـ التوبة: 18 .
3 ـ البقرة : 3 .
(الصفحة 252)
بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة ـ مثلاً ـ أو انّه سبب غير مستقلّ ولا يكون له موضوعية في حصول الكفر أصلاً بل انّما يوجبه في خصوص ما إذا رجع إنكاره إلى مثل إنكار الرسالة ولازمه التوجّه والالتفات إلى كونه ضرورياً في الدين؟ وجهان بل قولان نسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب انّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر بنفسه.
وقد استدلّ عليه بوجهين:
الوجه الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من انّ الإسلام ـ عرفاً وشرعاً ـ عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال الله تعالى: (انّ الدين عند الله الإسلام) ثمّ قال: وامّا ما دل على كفاية الشهادتين في الإسلام فالظاهر انّ المراد منه حدوث الإسلام ممّن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام فلا ينافي ما ذكرنا من انّ عدم التديّن ببعض الشريعة أو التديّن بخلافه موجب للخروج عن الإسلام. وكيف كان فلا إشكال في انّ عدم التديّن بالشريعة كلاًّ أو بعضاً مخرج عن الدين والإسلام.
ويرد عليه أوّلاً: انّ مقتضى هذا الاستدلال ثبوت الكفر على كل منكر لأيّ حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة ـ قاصراً كان المنكر أو مقصّراً، منجزاً كان ذلك الحكم أو غير منجّز ـ لأنّه لو كان المناط إنكار حكم من أحكام الإسلام فلا فرق فيه بين المنجز وغيره لأنّ عدم التنجّز على المكلّف لا يوجب خروج غير المنجز عن كونه من أحكام الإسلام وقواعده فلا وجه للتقييد بالمنجز، مع انّه ينافي ما قاله في ذيل كلامه ـ تأييداً لعموم كلام الفقهاء في نجاسة الخوارج والنواصب وشموله للقاصر والمقصر ـ من انّه يؤيّدها ما ذكرنا من انّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن الدين. وأنت خبير بأنّ التكليف بالإضافة إلى القاصر لا يكاد
(الصفحة 253)
يتّصف بالتنجّز أصلاً.
وثانياً: قد عرفت انّ مقتضى الآيات والروايات انّ الإسلام غير الايمان وانّه عبارة عن مجرّد الشهادتين من دون أن يكون هناك فرق بين الحدوث والبقاء وعدم إشعار شيء من الروايات بذلك فضلاً عن الدلالة، مع انّه ورد بعضها في مورد المسلمين ومن زعم الشيخ (قدس سره) انّ إسلامه هو التديّن بمجموع الأحكام كصحيحة حمران بن أعين أو حسنته عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الايمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّوجلّ وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها. الحديث.
الوجه الثاني: بعض الروايات الواردة في معنى الإسلام والكفر كصحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) رسول الله كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟! قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الايمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام . قال: وقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : انّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود ولم تقطّع أيديهم؟! وما خلق الله عزّوجلّ خلقاً أكرم على الله عزّوجلّ من المؤمن لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وان جوار الله للمؤمنين وانّ الجنّة للمؤمنين وإنّ الحور العين للمؤمنين ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟
وعن شيخنا الأنصاري (قدس سره) انّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أن التشريع بالفرائض ـ أي التديّن بها ـ مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام.
والحقّ انّ صدرها واضحة الدلالة على انّ المراد من الايمان ليس هو الإسلام بل
(الصفحة 254)
الإيمان الكامل المنافي لترك ما فرضه الله كيف وعدم ضرب الحدود وعدم قطع الأيدي من أوصاف المؤمن بالمعنى الأخصّ لا المسلم ولا المؤمن بالمعنى الوسيع كما هو واضح.
وامّا ذيلها أي قوله (عليه السلام) : «فما بال من جحد الفرائض كان كافراً» فالظاهر انّ مفاده انّ جحد الفرائض موجب للكفر ولكنّه من الممكن أن يكون المراد جحد جميع الفرائض حيث إنّ الفرائض جمع محلّى باللاّم ومن الواضح انّ إنكار جميع الفرائض يستلزم إنكار النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يوجب الكفر بلا خلاف كما تقدّم، أو يكون الجحود مغايراً للإنكار ـ كما هو الظاهر ـ فإنّ الجحد هو الإنكار عن علم نحو إنكار وجوب الصلاة مع العلم بوجوبها وهو أيضاً مستلزم لإنكار النبي (صلى الله عليه وآله) كما هو غير خفيّ، فالرواية لا دلالة لها على اعتبار أمر زائد على الاعتقاد بالرسالة ـ بعد الاعتقاد بالإلوهية وشؤونها ـ في معنى الإسلام المقابل للكفر.
ورواية حمران بن أعين قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله ـ عزّوجلّ ـ : (انّا هديناه السبيل امّا شاكراً وامّا كفوراً) قال : امّا آخذ فهو شاكر وامّا تارك فهو كافر. ويمكن أن يكون المراد من التارك هو من ترك الجميع لأنّ الترك لا يكاد يتحقّق إلاّ به، ومن الآخذ من أخذ ولو بالبعض فانّه يتحقّق بأخذ البعض أيضاً فتدبّر .
ورواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) قال: ترك العمل الذي أقرَّ به، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل.
ورواية مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وسُئل ما بال الزاني لا تسمّيه كافراً وتارك الصلاة قد سمّيته كافراً وما الحجّة في ذلك؟ فقال: لأنّ الزاني وما أشبهه انّما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنّها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ