(الصفحة 268)
مع انّك عرفت انّ مجرّد إنكار الضروري لا يكون موجباً للكفر وانّما يوجبه في خصوص ما إذا كان مستلزماً لإنكار الرسالة وتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) ولأجله لا نضائق من الحكم بكفر كلّ من حضر غدير خم ورأى نصب رسول الله ـ علياً ـ وجعله خليفة بعده وزعيماً للمسلمين ومع ذلك أنكره فإنّ هذا النحو من الإنكار تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) وهو موجب للكفر واما غير هؤلاء الطائفة فلا دليل على كفرهم ونجاستهم بل يحكم بطهارتهم للروايات الكثيرة الدالّة على ابتناء الإسلام على الشهادتين فقط للسيرة القطعية المتّصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) الجارية على المعاشرة والمؤاكلة معهم وماسورتهم وأكل ذبائحهم وترتيب آثار سوق المسلمين على أسواقهم وغير ذلك من آثار طهارتهم من دون إشعار شيء من ذلك بكون الباعث لهم على هذه المعاملة هو دليل نفي الحرج وانّ الحرج أوجب رفع الحكم بالنجاسة وإلاّ فالحكم الأوّلي هي النجاسة المترتّبة على كفرهم. هذا كلّه بناءً على القول بنجاسة أهل الكتاب أيضاً، وامّا بناءً على القول بطهارتهم ـ كما اخترناه ـ لعدم الدليل على نجاستهم مضافاً إلى قيام الدليل على الطهارة زائداً على اقتضاء الأصل لها فلا مجال لهذا البحث أصلاً إذ المخالف له مزية على أهل الكتاب وهو الاعتقاد بالرسالة فلا وجه ـ حينئذ ـ لتوهّم نجاستهم أصلاً.
نعم لو كان ناصباً لهم أو لأحدهم (عليهم السلام) فيحكم بكفره ونجاسته، وامّا السابّ لهم فلو كان سبّه ناشئاً عن نصبه لأهل البيت (عليهم السلام) فلا إشكال ـ حينئذ ـ في نجاسته لأنّه بعينه نصب وهو يوجبها، وامّا لو لم يكن سبّه لأهل البيت (عليهم السلام) لأجل النصب لهم بل يكون لداع آخر كما إذا قتل ولده بيده في معركة القتال ـ مثلاً ـ فيشكل الحكم بنجاسته وإن كان يجوز قتله بلا إشكال إلاّ انّ جواز القتل أمر والنجاسة أمر آخر إذ ربّما يحكم بجواز قتل شخص من دون أن يكون محكوماً بالنجاسة كمن أفطر
(الصفحة 269)
صومه الواجب عمداً فانّه يقتل في المرّة الثالثة أو الرابعة ولا يحكم بالنجاسة، فمقتضى القاعدة ـ حينئذ ـ طهارة هذا السابّ وإن كان أخبث من الخنازير والكلاب ومستحقّاً لأشدّ العذاب والعقاب بلا شكّ ولا ارتياب.
(الصفحة 270)
الحادي عشر: عرق الإبل الجلالة، والأقوى طهارة عرق ما عداها من الحيوانات الجلالة، والأحوط الاجتناب منه، كما انّ الأقوى طهارة عرق الجنب من الحرام، والأحوط التجنّب عنه في الصلاة وينبغي الاحتياط منه مطلقاً 1.
1 ـ الكلام في هذا الأمر يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في الحيوان الجلال وان عرقه نجس أم لا؟ فنقول: الأشهر بين القدماء نجاسة عرق الإبل الجلالة وبين المتأخّرين عدم نجاسته وممّن أصرّ على ذلك صاحب الجواهر (قدس سره) وقد أفتى باستحباب غسله واستدلّ على طهارته بما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ والظاهر انّه مذهب صاحب الوسائل من المحدّثين حيث إنّه أورد الروايتين الواردتين في الباب الظاهرتين في النجاسة في باب كراهة عرق الجلال. هذا في الإبل، وامّا غيرها فلم يقع خلاف في طهارة عرقه عدا ما يحكى عن نزهة ابن سعيد(رحمه الله)> .
وكيف كان المستند في نجاسة عرق الإبل الجلالة روايتان:
إحداهما: صحيحة حفص بن البختري أو حسنته عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله.
ثانيتهما: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تأكل اللحوم الجلالة، وإن أصابك من عرقها شيء فاغسله.
والظاهر منهما هي النجاسة للأمر بالغسل فيهما كالأمر بالغسل في أبوال ما لا يؤكل لحمه الذي استفيد منه النجاسة من دون أن يقع التصريح بها وإن كان الظهور في النجاسة في المقام دون الظهور فيها في أبوال ما لا يؤكل لأنّه قد أمر في المقام بغسل العرق الذي أصاب الشخص أو ثوبه وفي ذلك المقام قد أمر بغسل الثوب الذي أصابه البول حيث قال: «اغسل ثوبك من أبواب ما لا يؤكل لحمه» ومن
(الصفحة 271)
المعلوم انّ ظهور الثاني في النجاسة أقوى من ظهور الأوّل وإن كان أصل الظهور ممّا لا ينبغي أن ينكر فدلالة الروايتين بحسب المتفاهم العرفي على نجاسة عرق الإبل الجلالة ممّا لا وجه للمناقشة فيها أصلاً كما لا يخفى.
وقد خالف فيما ذكرنا صاحب الجواهر (قدس سره) وبالغ في تأييد ما أفاده وتمسّك له بالاُصول وعمومات طهارة الحيوان أو سؤره بدعوى ملازمة طهارة سؤره لطهارة عرقه واستبعاد الفرق بين الإبل وسائر الجلالات بل بينها وبين ما حرم أكله أصالة كالهرة، بل وبين عرقه وسائر فضلاتها، إلى أن قال: «إنّ صحيحة هشام لا اختصاص فيها بالإبل ولا قائل بالأعمّ غير النزهة، والتخصيص إلى واحد غير جائز والحمل على العهد تكلّف، فلابدّ من الحمل على غير الوجوب وإلاّ لكان الخبر من الشواذ، ومجاز الندب أولى من عموم المجاز حتّى قيل إنّه مساو للحقيقة فيكون قرينة على إرادة الندب بالنسبة إلى الإبل أيضاً حتّى في حسنة حفص».
والجواب عنه أوّلاً: إنّ القول بالأعمّ الذي قال به ابن سعيد صاحب «النزهة» لا يكون شاذّاً بحيث يكون مطروحاً لأجل الشذوذ ولذا قد احتاط صاحب «العروة» بالاجتناب عن عرق الجلال مطلقاً من دون أن يفرق في أصل الحكم بين الإبل وغيرها وان فرّق بينهما في التعبير، وقد عبّر في المتن بأنّ الأقوى طهارة عرق ما عدى الإبل من الحيوانات الجلالة، وظاهره عدم كون القول المخالف متّصفاً بالشذوذ.
وثانياً: إنّ القول بالتفصيل وعدم نجاسة عرق ما عدى الإبل من الحيوانات الجلالة لا يوجب الاستهجان لعدم استلزامه التخصيص إلى واحد وذلك لما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في مباحثه الاُصولية من انّ هيئة الأمر لا دلالة لها على خصوص الوجوب بالدلالة اللفظية الوضعية، بل هي موضوعة
(الصفحة 272)
لنفس البعث كما انّ هيئة النهي موضوعة لمجرّد الزجر، غاية الأمر انّه مع عدم قيام دليل على الترخيص يكون حجّة على العبد، لحكم العقل والعقلاء بلزوم تبعية بعث المولى وزجره مع عدم ورود الترخيص من قبله، وفي المقام نقول: كما انّه يجوز ورود الترخيص بالإضافة إلى جميع الأفراد ولازمه الاستحباب والكراهة مطلقاً كذلك يجوز ورود الترخيص بالإضافة إلى بعض الأفراد دون بعض بل يجوز الترخيص إلى واحد ولا يوجب الاستهجان بوجه فإنّ الترخيص كاشف عن عدم الإرادة الإلزامية بالنسبة إلى غير الإبل وثبوتها فيها فأين الاستهجان.
وثالثاً: لو سلم جميع ذلك بالنسبة إلى صحيحة هشام فما الموجب لرفع اليد عن الحسنة الواردة في خصوص الإبل الجلالة الظاهرة في النجاسة الخالية عن المناقشة فانّ عدم إمكان الالتزام بمقتضى ظاهر الصحيحة لأجل ما ذكر لا يسوغ التصرّف في ظاهر الحسنة بالحمل على الندب مع الاعتراف بكونه مغايراً للحقيقة فتدبّر، فما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) ضعيف جدّاً.
وأضعف منه ما أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ممّا يرجع إلى انّ الإمام (عليه السلام)نهى عن شرب ألبان الإبل الجلالة في الحسنة أوّلاً ثمّ فرع عليه الأمر بغسل عرقها، وسبق الأمر بغسله بالنهي عن شرب الألبان أو أكل اللحوم قرينة أو انّه صالح للقرينية على انّ وجوب غسل العرق مستند إلى صيرورة الجلال من الإبل وغيرها محرم الأكل عرضاً، ولا تجوز الصلاة في شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ـ كانت حرمته ذاتية أو عرضية ـ ولأجل ذلك فرع عليه الأمر بغسل عرقه حتّى يزول ولا يمنع عن الصلاة وإن كان محكوماً بالطهارة في نفسه كما هو الحال في ريق فم الهرّة، وعلى الجملة انّ الأمر بغسل عرق الجلال في الروايتين امّا ظاهر فيما ذكر من كونه للمانعية لا للنجاسة أو انّه محتمل له، ومعه لا يبقى مجال للاستدلال بهما على نجاسة