(الصفحة 274)
قبله للّبن واشتراكهما في المانعية من حيث الجزئية.
وامّا ثالثاً فلأنّ الأمر بالغسل ظاهر في النجاسة كما مرّ سابقاً في مباحث نجاسة البول والدم وغيرهما وقد تقدّم انّ نجاسة أكثر النجاسات انّما استفيدت من الأمر بالغسل فيها فلو كان الغرض بيان المانعية لكان ينبغي التعبير بالأمر بالإزالة بأيّة كيفية دون الأمر بالغسل الظاهر في الغسل بالماء وهو لا يلائم إلاّ مع النجاسة.
وامّا رابعاً فلأنّ إلحاق ما لا يؤكل لحمه بالعرض بما لا يؤكل لحمه بالذات في كون أجزائه مانعة عن الصلاة لا يكون مسلّماً في باب المانعية أصلاً.
فالحقّ نجاسة عرق الإبل الجلالة بمقتضى الرواية وهي حكم تعبّدي كسائر الأحكام التعبّدية والاستبعادات كلّها غير تامّة وعدم معرفة وجهها غير مانعة.
المقام الثاني: في عرق الجنب من الحرام، وقد وقع الخلاف في ذلك، فعن جملة من المتقدّمين كالصدوقين والشيخين والقاضي وابن الجنيد القول بالنجاسة، بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليه، وعن الاستاذ والرياض دعوى الشهرة العظيمة، وعن أمالي الصدوق انّه من دين الإمامية، وعن المراسم والغنية نسبته إلى أصحابنا وعن المبسوط إلى رواية أصحابنا. وعن الحلّي دعوى الإجماع على الطهارة وان من قال بنجاسته في كتاب رجع عنه في كتاب آخر.
وامّا الاحتمالات في المسألة فثلاثة: الأوتل: الطهارة. الثاني: النجاسة. الثالث: المانعية عن الصلاة فيه مع كونه طاهراً.
وامّا الأدلّة فقد وردت روايات يتمسّك بها على النجاسة:
منها: رواية إدريس بن داود الكفرثوثي انّه كان يقول بالوقف فدخل سرّ من رأى في عهد أبي الحسن (عليه السلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيُصلّى فيه؟ فبينما هو قائم في طاق باب لانتظاره إذ حرّكه أبو الحسن (عليه السلام) بمقرعة
(الصفحة 275)
وقال مبتدئاً: إن كان من حلال فصلِّ فيه، وإن كان من حرام فلا تصلِّ فيه. وفيه: إنّ هذه الرواية مخدوشة سنداً مضافاً إلى عدم ظهورها في النجاسة.
ومنها: ما نقله المجلسي في البحار من كتاب المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ نقلاً من كتاب المعتمد في الاُصول قال عليّ بن مهزيار: وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلاّ انّه صائف والناس عليهم ثياب الصيف، وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لباد (لبابيد) وعلى فرسه تجفاف لبود، وقد عقد ذنب الفرسة والناس يتعجّبون منه ويقولون: ألا ترون إلى هذا المدني وما قد فعل بنفسه، فقلت في نفسي: لو كان إماماً ما فعل هذا، فلمّا خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا ان ارتفعت سحابة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتل حتّى غرق بالمطر، وعاد (عليه السلام)وهو سالم من جميعه فقلت في نفسي: يوشك أن يكون هو الإمام، ثمّ قلت: أريد أن أسأله عن الجنب إذا عرق في الثوب، فقلت في نفسي: إن كشف وجهه فهو الإمام فلما قرب منّي كشف وجهه ثمّ قال: إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، وإن كان جنابته من حلال فلا بأس فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة. وهذه أيضاً غير معتبرة سنداً وغير واضحة دلالة.
ومنها: ما عن البحار أيضاً: قال بعد نقل الخبر المتقدّم: وجدت في كتاب عتيق من مؤلّفات قدماء أصحابنا رواه عن أبي الفتح غازي بن محمد الطرائفي عن علي بن عبدالله الميمون، عن محمد بن علي بن معمر عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي عنه (عليه السلام) مثله وقال: إن كان من حلال فالصلاة في الثوب حلال وإن كان من حرام فالصلاة في الثوب حرام.
ومنها: ما عن الفقه الرضوي: «إن عرقت في ثوبك وأنت جنب فكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه، وإن كان حراماً فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل. ولم
(الصفحة 276)
ينقله في «المستدرك» مع نقله روايات الفقه الرضوي. وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة دلالة حيث جعل فيها غاية الحكم بعدم جواز الصلاة في الثوب الذي عرق فيه الغسل لا زواله بأيّ نحو اتّفق ومن الظاهر انّ المراد بالغسل هو الغسل بالماء الظاهر في النجاسة إلاّ انّها لا تكون تامّة من حيث السند لعدم ثبوت كون الفقه الرضوي المعروف رواية فضلاً عن أن تكون معتبرة.
ومنها: مرسلة علي بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فانّه يغتسل فيه من الزنا ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم.
وهذه أيضاً لا تكون معتبرة سنداً للإرسال وغير ظاهرة دلالةً لعدم العلم بوجود العرق في بدن من يغتسل من الزنا حتّى يكون النهي عن الاغتسال في غسالته لمكان عرقه خصوصاً مع ذكر ولد الزنا عقيبه.
والحاصل انّه لا دليل على نجاسة عرق الجنب من الحرام، نعم قال الشيخ (قدس سره)في محكي كلامه: «وإن كانت الجنابة من حرام وجب غسل ما عرق فيه على ما رواه بعض أصحابنا» ولكن الظاهر انّ مراده ممّا رواه بعض أصحابنا هي رواية علي بن الحكم المذكورة آنفاً لأنّه لو كانت هناك رواية اُخرى دالّة على النجاسة لكان اللازم نقلها في كتابي التهذيب والاستبصار المعدّين لنقل الروايات المأثورة أو الجمع بين الأخبار المتعارضة.
وبالجملة الروايات الواردة في المقام بأجمعها غير معتبرة من حيث السند ودعوى انجبار ضعف سندها بالشهرة الفتوائية بين القدماء حيث إنّ المشهور بينهم النجاسة كما يظهر من مطاوي كلماتهم مدفوعة:
أوّلاً: بمنع اشتهار النجاسة بينهم لما تقدّم من الحلّي بعد ادّعاء الإجماع على
(الصفحة 277)
الطهارة من انّ من ذهب إلى نجاسته في كتاب ذهب إلى طهارته في كتاب آخر وعليه فالشهرة على النجاسة غير ثابتة، نعم الظاهر انّ المشهور بين القدماء هي المانعية عن الصلاة لظهور كلماتهم فيها لا في النجاسة.
وثانياً: بأنّه لو سلّم انّ الشهرة كانت قائمة على النجاسة لكن الشهرة الجابرة لضعف السّند انّما هي الشهرة المقابلة للنادر الشاذّ ـ على ما هو مقتضى مقبولة ابن حنظلة ـ لا الشهرة التي في مقابلها شهرة اُخرى بناء على إمكان وجود شهرتين كما يظهر من المقبولة أيضاً.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّه بعد عدم قيام الدليل على نجاسة عرق الجنب من الحرام لابدّ من الالتزام بالطهارة على ما هو مقتضى الأصل والقاعدة، بل لو قصرنا النظر إلى الأدلّة لا نرى دليلاً معتبراً على المانعية أيضاً لانحصاره في الروايات المذكورة التي عرفت حالها.
وممّا يؤيّد عدم النجاسة وعدم المانعية عن الصلاة انّ السؤال في الأخبار المتقدّمة انّما كان عن عرق مطلق الجنب لا خصوص الجنب عن الحرام، وهذا يكشف عن عدم معهودية النجاسة والمانعية إلى زمان العسكري (عليه السلام) وإنّ التفصيل بين القسمين من الجنب قد صدر منه (عليه السلام) مع انّه من البعيد أن تكون النجاسة أو المانعية مخفية عند المسلمين إلى عصر العسكري (عليه السلام) مع شدّة ابتلائهم به فيظهر من ذلك انّه لا مناص من حمل الأخبار المانعة ـ على تقدير اعتبارها ـ على التنزّه والكراهة كيف وقد ورد في جملة من الأخبار انّه لا بأس بعرق الجنب وانّ الثوب والعرق لا يجنبان كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتّى يلصق عليهما؟ فقال: إنّ الحيض والجنابة حيث جعلهما الله عزّوجلّ ليس في العرق فلا يغسلان ثوبهما. وما عن أبي عبدالله (عليه السلام): لا
(الصفحة 278)
يجنب الثوب الرجل ولا يجنب الرجل الثوب.
فالحقّ بعد ذلك طهارة عرق الجنب من الحرام وعدم مانعيته وإن كان الأحوط الاجتناب عنه خصوصاً في الصلاة.
بقي في هذا المقام فروع:
الأوّل: انّه بناء على القول بالنجاسة أو مجرّد المانعية هل يختص ذلك بما إذا كانت الحرمة ذاتية كما إذا كان من زنا أو وطىء البهيمة أو الاستمناء أو نحوها أو يعمّ ما إذا كانت الحرمة غير ذاتية كوطىء الحائض والجماع في يوم الصوم الواجب المعيّن؟ وجهان مبنيان على انّ المراد بالحلال والحرام في الروايات المتقدّمة هل هي الحرمة والحلّية الفعليتان فيحكم بنجاسة أو مانعية عرق من جامع زوجته وهي حائض وطهارة عرق من اُكره على الزنا أو اضطرّ إليه وذلك لثبوت الحرمة الفعلية في الأوّل والحلّية الفعلية في الثاني، أو انّ المراد منهما هي الحلّية والحرمة الذاتيتان فيحكم بالعكس؟
لا تبعد دعوى انصراف الحلال والحرام إلى الذاتيتين فانّ ظاهر قوله (عليه السلام): «إذا كان عرق الجنب وجنابته من حرام لا تجوز الصلاة فيه، وإن كانت جنابته من حلال فلا بأس» أن تكون الجنابة من حرام ذاتي كما انّ المتبادر من النهي عن الصلاة في أجزاء غير المأكول هو ما لا يؤكل لحمه ذاتاً وإن اضطرّ إليه فعلاً ولأجله جاز له الأكل فالمراد من الحلال والحرام هما الذاتيان بحكم الانصراف فتدبّر.
الثاني: في كيفية الاغتسال من الجنابة على تقدير نجاسة العرق قال السيّد (قدس سره)في العروة بعد الحكم بأنّ العرق الخارج منه حال الاغتسال قبل تمامه نجس: «وعلى هذا فليغتسل في الماء البارد، وإن لم يتمكّن فليرتمس في الماء الحار وينوي الغسل حال الخروج أو يحرّك بدنه تحت الماء بقصد الغسل».