(الصفحة 358)
ومن الروايا الدالّة على وجوب الإعادة في المقام رواية أبي بصير ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثمّ علم به؟ قال: عليه أن يبتدئ الصلاة، قال: وسألته عن رجل يصلّي وفي ثوبه جنابة أو دم حتّى فرغ من صلاته ثمّ علم؟ قال: مضت صلاته ولا شيء عليه.
ثمّ إنّ هنا روايات ربما تتوهّم دلالتها على وجوب الإعادة في صورة التبين في الأثناء:
إحداها: صحيحة محمد بن مسلم ـ المتقدّمة ـ عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلّي؟ قال: لا يؤذنه (لا يؤذيه) حتّى ينصرف. نظراً إلى دلالتها على انّ العلم بالنجاسة الحاصل بإعلام الغير في أثناء الصلاة يوجب البطلان.
والظاهر انّه لا دلالة لها على ذلك فانّ غاية مفادها انّ العلم بالنجاسة بعد الفراغ لا يؤثّر في البطلان، وامّا كون العلم بها في الأثناء مؤثِّراً فيه فلا يستفاد من الصحيحة بوجه والنهي عن الإعلام أو عن الإيذاء انّما هو لأجل انّه مع العلم بها في الأثناء يصير مكلّفاً بالإزالة بالإضافة إلى الأجزاء الباقية ورعاية هذا التكليف في أثناء الصلاة ليس بسهل نوعاً ويؤيّده انّ الإعلام ربّما لا يصير موجباً للعلم بوقوع الأجزاء الماضية في النجاسة فتدبّر.
ثانيتهما: صحيحة اُخرى لمحمّد بن مسلم ـ المتقدّمة أيضاً ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: ذكر المني فشدّده فجعله أشدّ من البول ثمّ قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك فكذلك البول. نظراً إلى دلالتها على بطلان الصلاة في النجاسة الواقعة قبلها مع رؤيتها في الأثناء لأنّ ذكر المني قرينة على
(الصفحة 359)
حدوثه قبل الصلاة لبعد ملاقاة الثوب في أثنائها.
ولا يخفى انّ ظاهرها التفصيل بين ما إذا كان مسبوقاً بالعلم وما إذا لم يكن كذلك لا الفرق في خصوص الثاني بين الأثناء وبعد الفراغ كما هو مفروض المسألة لأنّ المراد بقوله (عليه السلام) : إن رأيت ... انّه إن رأيت المني قبل الشروع في الصلاة أو بعد الدخول فيها ونسيت إزالته وصلّيت ثمّ ذكرت فعليك الإعادة. فصدر الرواية متعرّض لحكم ما إذا سبق العلم قبل إتمام الصلاة مع فرض وقوع باقي الأجزاء فيها. غاية الأمر انّ ذلك لا يتحقّق من القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطية الطهارة إلاّ مع نسيان الإزالة، ويؤيّد ذلك عطف قوله: بعدما تدخل، على قوله: قبل، الدال على انّ الفرض هو ما إذا وقعت الصلاة بتمامها أو ببعض أجزائها مسبوقة بالعلم بالنجاسة، كما يؤيّده أيضاً قوله: فعليك إعادة الصلاة، الظاهر في انّ المكلّف أتمّ الصلاة الاُولى وإلاّ فالتعبير المناسب أن يقال: تنقض الصلاة كما في صحيحة زرارة.
ثالثتها: صحيحة ثالثة أو حسنة لمحمد بن مسلم مروية في الكافي قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليَّ وأنا في الصلاة؟ قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلِّ في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقلّ من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه. ورواه الشيخ في التهذيب بزيادة لفظة «واو» قبل قوله «ما لم يزد» وإسقاط قوله «وما كان أقلّ من ذلك» وعليه تكون جملة «ما لم يزد» جملة مستأنفة خبرها قوله «فليس بشيء» وحيث إنّ الشيخ رواه فيه عن كتاب الكافي فيدلّ ذلك على انّ النسخة الموجودة عنده منه كانت مطابقة لما في التهذيب فلا مجال للقول بأنّ ما في الكافي أضبط ممّا في غيره. ورواه الصدوق
(الصفحة 360)
باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) مع زيادة «وليس ذلك بمنزلة المني والبول».
وكيف كان فلابدّ من توضيح معنى الرواية وبيان مقدار دلالتها ليظهر حال التوهّم المذكور فنقول: الظاهر إطلاق السؤال وشموله لما إذا علم بوقوع بعض أجزاء الصلاة في الدم المرئي في الأثناء ولما إذا احتمل حدوثه في الأثناء كما انّ الظاهر عدم شموله لما إذا صلّى في الدم عالماً لأنّه ـ مضافاً إلى انّه لا يتحقّق ذلك من المكلّف القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطية الطهارة ـ مخالف لما هو المتفاهم من السؤال المتبادر منه فانّ ظاهره انّه لو كانت الرؤية قبل الشروع في الصلاة لما كان يشتغل بها قبل الإزالة. وامّا الجواب فهو متضمّن لأربع جملات:
إحداها: قوله (عليه السلام) : «إن رأيته وعليك ثوب...» والمراد انّه لو رأيته في الأثناء وأمكن لك الإزالة وتحصيل الطهارة بحيث لا تبقى مكشوف العورة يجب عليك ذلك ولو بإلقاء الثوب وطرحه إذ من المعلوم انّه لا خصوصية لطرح الثوب كما انّه لا خصوصية لأن يكون على المصلّي ثوب غير ما فيه الدم بل المراد إمكان إزالة الدم عمّا تعتبر طهارته في الصلاة ولو كان له ثوب واحد، وحكم هذه الصورة وجوب الإزالة وإتمام العبادة وعدم وجوب الإعادة وهو إن كان مطلقاً شاملاً لما إذا كان الدم أقلّ من الدرهم إلاّ انّه بقرينة قوله (عليه السلام) فيما بعد: «وما كان أقلّ...» يجب تقييده بغير هذه الصورة.
ومن المعلوم انّه لا دلالة لهذه الجملة على التفصيل الذي دلّ عليه مثل صحيحة زرارة المتقدّمة لأنّ مقتضى إطلاقها صحّة الصلاة فيما لو ع لم بوقوع بعض الصلاة في الدم أيضاً فتكون معارضة لها بالإطلاق والتقييد فيجب تقييدها بها، ولو حمل مورد السؤال على خصوص ما إذا احتمل حدوث الدم في الأثناء فلا تعارض
(الصفحة 361)
بينهما بوجه ولا حاجة إلى التقييد أيضاً.
ثانيتها: قوله (عليه السلام) : «وإن لم يكن عليك ثوب غيره...» وظاهرها انّه لو لم تتمكّن من الإزالة بحيث تبقى مستور العورة فإن لم يكن الدم زائداً على مقدار الدرهم فامض في صلاتك ولا إعادة عليك، ومفهومها انّه لو كان الدم زائداً على المقدار المذكور فلا يجب عليك المضي بل تجب عليك الإعادة ، ولا يخفى انّه لا يجوز أن يكون قوله (عليه السلام) «ما لم يزد...» قيداً للجملة الاُولى أيضاً إذ ينافيه الأمر بالطرح الدال على وجوبه كما انّه بناءً عليه يكون التفصيل بين ما إذا كان عليه ثوب غيره وبين ما إذا لم يكن عليه بلا فائدة إذ يكون المدار ـ حينئذ ـ على الزيادة على مقدار الدرهم وعدمها ففي الصورة الاُولى تجب عليه الإعادة في الفرضين وفي الثانية بالعكس، فوجب أن تكون قيداً لخصوص الجملة الثانية كما هو ظاهر الرواية أيضاً.
ثالثتها: قوله (عليه السلام) : «وما كان أقلّ من ذلك...» وظاهرها انّ الدم إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم لا يترتّب عليه أثر، سواء فيه الروية وعدمها وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الثانية المقيّدة بالقيد المذكور وكالتقييد بالنسبة إلى الجملة الاُولى الدالّة على وجوب الطرح حيث إنّها تقيّدها بما إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم كما تقدّمت الإشارة إليه.
رابعتها: قوله (عليه السلام) : «وإذا كنت قد رأيته...» والمراد انّه لو كان الدم أكثر من مقدار الدرهم وقد رأيته قبل الشروع في الصلاة وضيّعت غسله ـ والمقصود من تضييع الغسل امّا عدم الغسل أصلاً أو الغسل مع عدم المبالاة في إزالة الدمّ والالتفات إليه ـ وصلّيت فيه صلاة كثيرة تجب عليك الإعادة وقد عرفت انّ الصلاة في هذه الصورة لا تكاد تتحقّق من المكلّف القاصد للامتثال، العالم بالاشتراط إلاّ مع نسيان نجاسة الثوب فهذه الجملة متعرّضة لحكم النسيان ولا دلالة لها على حكم صورة الجهل
(الصفحة 362)
بالنجاسة أصلاً. ومن الواضح انّه لا دلالة لهذه الجمل الثلاثة الأخيرة على التفصيل المتقدّم. هذا كلّه بناءً على ما هو الموجود في نسخ الكافي التي بأيدينا.
وامّا بناءً على ما رواه الشيخ (قدس سره) في التهذيب ممّا تقدّم فالرواية أشبه بكونها صادرة من الإمام (عليه السلام) لخلوّها ـ حينئذ ـ عن التكرار. نعم مدلول الجملة الثانية الواردة فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم يصير مخالفاً لما عليه المشهور من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من إزالة النجاسة كما هو مقتضى أدلّة شرطية الطهارة.
وربّما يقال: بأنّ الجملة الثانية ـ على رواية الشيخ ـ مطلقة ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في المضي على الصلاة بين صورة التمكّن من إزالة النجاسة ولو بإلقاء ثوبه وبين صورة العجز عن إزالتها وهو على خلاف الإجماع وغيره من الأدلّة القائمة على بطلان الصلاة في النجس متعمّداً وليس الأمر كذلك على رواية الكليني حيث انّ الجملة الثانية مقيّدة بما إذا كان الدم أقلّ من الدرهم على كل حال سواء أرجعناه إلى الجملة السابقة أيضاً أم خصصناه بالأخيرة وهذا يدلّنا على وقوع الاشتباه فيما نقله الشيخ.
وقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان هذا القول فإنّ دعوى الإطلاق في الجملة الثانية ممنوعة جدّاً ضرورة انّ المراد من عدم وجود ثوب غيره عدم التمكّن من الإزالة فهو كناية عنه. نعم مراده من الإزالة هي الإزالة بحيث لا يبقى المصلّي مكشوف العورة فغاية مفاد الرواية تقدّم الصلاة في النجس مع عدم التمكّن من الإزالة في الأثناء على الصلاة عارياً وأين هذا من دعوى الشمول لصورة التمكّن من الإزالة مطلقاً.
وقد انقدح ممّا ذكرنا عدم نهوض الرواية للدلالة على التفصيل كما انّ الاستدلال