(الصفحة 370)
ثالثها: انّه يتخيّر المصلّي بين الأمرين: الصلاة عارياً والصلاة في الثوب المتنجّس وهو محكي عن المحقّق في المعتبر، والعلاّمة في بعض كتبه.
ومنشأ الاختلاف بينهم وجود الأخبار المتعارضة في هذا المقام وهي على طائفتين:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على وجوب الصلاة عارياً مع انّه لا يكون اضطرار في البين وهي:
رواية سماعة المضمرة المروية في الكافي قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض وليس عليه إلاّ ثوب واحد وأجنب فيه، وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال: يتيمّم ويصلّي عرياناً قاعداً يؤمى إيماء. ورواه الشيخ عن الكافي أيضاً.
ومضمرته الاُخرى قال: سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض فأجنب وليس عليه إلاّ ثوب فأجنب فيه وليس يجد الماء؟ قال: يتيمّم ويصلّي عرياناً قائماً يؤمى ايماء. والظاهر عدم كونها رواية اُخرى بل هي بعينها الرواية الاُولى والاختلاف بينهما من جهة القيام والقعود لا يوجب تعدّدها فانّه من الواضح انّ سماعة انّما سأل عن حكم المسألة المفروضة في كلامه مرّة واحدة واُجيب بجواب واحد والاختلاف انّما نشأ من اختلاف بعض الرواة الواقعة في السند.
ورواية محمد بن علي الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة، وليس عليه إلاّ ثوب واحد، وأصاب ثوبه مني؟ قال: يتيمّم ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعاً فيصلّي ويؤمى ايماء. وغير ذلك من الروايات الدالّة على ذلك.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على وجوب الصلاة في الثوب المتنجّس وهي كثيرة وربّما ادّعى فيها التواتر الإجمالي الذي يرجع إلى القطع بصدور بعضها ولكنّها غير ثابتة، لأنّ أكثرها ينتهي إلى الحلبي ولم يثبت كونها روايات متعدّدة.
(الصفحة 371)
منها: ما رواه الصدوق باسناده عن محمّد بن علي الحلبي، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره (آخر)؟ قال: يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله. قال الصدوق: وفي خبر آخر: وأعاد الصلاة.
ومنها: رواية اُخرى له وفيها انّه سُئل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال: يصلّي فيه.
ومنها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبدالله انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يجنب في ثوبه ليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال: يصلّي فيه.
ومنها: ما رواه الشيخ باسناده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة ، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلّي عرياناً؟ قال: إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلّى فيه ولم يصلِّ عرياناً. ورواه الصدوق والحميري عنه أيضاً.
ومنها: رواية ثالثة لمحمّد بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال: يصلّي فيه إذا اضطرّ إليه.
ومنها: موثقة سماعة المتقدّمة في المقام. والظاهر انّها هي المراد بالخبر الذي ذكر الصدوق بعد نقل رواية الحلبي. وفي خبر آخر: وأعاد الصلاة.
ثمّ إنّ الشيخ (قدس سره) حمل هذه الطائفة على صورة الاضطرار إلى لبس الثوب المتنجّس لضرر أو حرج. وتنظر فيه في المعتبر قال في محكيه: «إنّ هذا التأويل محلّ نظر ولو قيل بالتخيير بينهما لكان حسناً» ومراده التخيير بين الصلاة عارياً وبين الصلاة في الثوب المتنجّس وهو تخيير عقلي لأنّ المكلّف لا يخلو امّا أن يصلّي في الثوب المتنجّس وامّا أن يصلّي عرياناً وليس تخييراً شرعياً كما في الواجبات
(الصفحة 372)
التخييرية كما انّه ليس تخييراً في المسألة الاُصولية من جهة ثبوت التخيير من ناحية الأخذ بكل واحدة من الطائفتين بل منشأه امّا طرح الطائفتين لثبوت المعارضة بينهما وعدم إمكان الجمع بينهما وعدم وجود المرجّح أو تعارضه أيضاً، وامّا الجمع بينهما بهذا النحو.
وامّا القول بوجوب الصلاة عرياناً فمنشأه تقديم الطائفة الدالّة عليه لكونها موافقة للشهرة بينهم، كما انّ القول بوجوب الصلاة في الثوب المتنجّس يكون مستنداً إلى ترجيح الطائفة الدالّة عليه لأجل صحّتها وكونها أكثر عدداً وصاحب المدارك ذهب إلى عدم حجّية الطائفة الاُولى أصلاً بناءً على مسلكه من عدم حجّية غير الخبر الصحيح.
والحق انّه لا محيص عن الجمع بين الطائفتين بما عرفت من الشيخ (قدس سره) من حمل الأخبار الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب النجس على ما إذا اضطرّ إلى لبسه أو وجود ناظر أو غيرهما، وحمل ما يدلّ على الصلاة عارياً على صورة عدم الاضطرار.
توضيح ذلك انّ السند في بعض الروايات المتقدّمة الدالّة على وجوب الصلاة عارياً ينتهي إلى محمد بن علي الحلبي، كما انّ السند في بعض الروايات الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب النجس ينتهي إليه أيضاً، ومن البعيد انّه كان قد سُئل عن حكم المسألة مرّتين أو مرّات بل الظاهر انّه سئل عن الإمام (عليه السلام) مرّة واحدة وأجابه (عليه السلام) بجواب واحد فالتعدّد انّما نشأ من تعدّد من روى عنه من الرواة و ـ حينئذ ـ فالرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه الجنابة مع عدم كونه واجداً لغيره لا تكون مغايرة للرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه المنفرد البول بل الظاهر انّهما رواية واحدة كما يدلّ على ذلك روايته الأخيرة المشتملة على
(الصفحة 373)
حكم من أصاب ثوبه المنفرد جنابة أو بول، ولا يخفى انّ وجوب الصلاة في الثوب النجس قد قيّد في هذه الرواية بما إذا كان المصلّي مضطرّاً إلى لبسه لبرد أو غيره ضرورة انّه ليس المراد من الاضطرار وهو الاضطرار الحاصل من قبل الصلاة لأجل كونها مشروطة بستر العورة لأنّه كان ذلك مفروض السؤال فلا يحتاج إلى التكرار فالمراد منه هو الاضطرار الطارئ مع قطع النظر عن اعتبار الستر في صحّة الصلاة و ـ حينئذ ـ فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع بين الروايات التي رواها محمد بن علي الحلبي التي قد عرفت انّها رواية واحدة، ولعلّ الوجه في إطلاق الحكم بوجوب الصلاة عارياً في روايته الدالّة عليه هو انّ مفروض السؤال فيها كون الرجل في فلاة من الأرض. ومن المعلوم انّه لا يضطرّ الرجل إلى لبس الثوب غالباً في الفلاة لعدم وجود ناظر فيها كذلك، فإذا ثبت الجمع بين الروايات التي رواها محمّد بن علي الحلبي بهذا النحو يظهر وجه الجمع بين سائر الروايات المتعارضة إذ موثقة سماعة المتقدّمة التي حكم فيها بوجوب الصلاة عرياناً انّما هي واردة فيما إذا كان الرجل في فلاة من الأرض وقد مرّ انّه في هذه الصورة لا يتحقّق الاضطرار غالباً، فانقدح انّ طريق الجمع بين الروايات المتقدّمة المتعارضة بعد التأمّل فيها هو ما اختاره الشيخ في مقام الجمع من وجوب الصلاة عارياً فيما إذا لم يتحقّق الاضطرار إلى لبسه لبرد أو ناظر أو غيرهما.
ثمّ إنّه لو فرضنا عدم إمكان الجمع بين تلك الأخبار المتعارضة بنحو يخرجها عن التعارض ووصلت النوبة إلى اعمال المرجحات فاللازم أيضاً الأخذ بالروايات الدالّة على وجوب الصلاة عارياً لأنّا قد قرّرنا في محلّه انّ أوّل المرجّحات هي الشهرة في الفتوى ولا ريب في انّها موافقة لهذه الروايات كما يدلّ عليه فتوى الشيخ (قدس سره) ومن بعده إلى زمان المحقّق (قدس سره) .
(الصفحة 374)
وقد ذكر بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ انّ روايتي سماعة مضمرتان وليس السماعة في الجلالة والاعتبار كزرارة ومحمد بن مسلم حتّى لا يحتمل سؤاله عن غير الإمام (عليه السلام) ومن المحتمل أن يكون قد سأل شخصين آخرين غير الإمام (عليه السلام)ويؤكّده اختلاف الروايتين في الجواب حيث ورد في إحداهما: إنّه يصلّي قاعداً وفي الاُخرى: انّه يصلّي قائماً فالروايتان ساقطتان عن الاعتبار، وامّا رواية الحلبي ففي سندها محمد بن عبد الحميد، وأبوه ـ عبد الحميد ـ وإن كان موثقاً إلاّ انّ ابنه لم تثبت وثاقته فإنّ توثيقاته تنتهي إلى النجاشي، والعبارة المحكية عنه لا تفي بتوثيق الرجل حيث قال: «محمد بن عبد الحميد بن سالم العطّار أبو جعفر، روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين» وهذه العبارة وإن صدرت منه عند ترجمة محمد بن عبد الحميد إلاّ انّ ظاهر الضمير في قوله: كان ثقة، انّه راجع إلى أبيه وهو عبد الحميد لا إلى محمد ابنه ولو لم يكن ظاهراً فيه فلا أقلّ من إجماله فلا يثبت بذلك وثاقة الرجل وبهذا تسقط الرواية عن الاعتبار وتبقى الصحاح المتقدّمة الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب المتنجّس من غير معارض.
أقول: يرد عليه ـ مضافاً إلى عدم ثبوت التعدّد لرواية سماعة لما عرفت من ظهور كونها رواية واحدة ـ انّ سماعة وإن لم يكن في الجلالة والاعتبار مثل زرارة ومحمّد بن مسلم إلاّ انّ ظهور رواياته المضمرة في كون سؤاله انّما هو عن الإمام (عليه السلام)ممّا لا ينبغي الارتياب فيه خصوصاً بعد ملاحظة منشأ الاضمار فيها وهو الاكتفاء بذكر اسمه المبارك في أوّل كتابه والإشارة إليه بالضمير في بقية الروايات لعدم الحاجة إلى تكرار الاسم فمجرّد الإضمار فيها لا يوجب سقوط الرواية عن الاعتبار وهل يمكن دعوى السقوط مع عدم ثبوت المعارض لها فعند ثبوته أيضاً لا مجال لهذه الدعوى كما لا يخفى.