(الصفحة 393)
مسألة 3 ـ لا يحكم بنجاسة شيء ولا بطهارة ما ثبت نجاسته إلاّ باليقين أو باخبار ذي اليد، أو بشهادة عدلين، وفي الاكتفاء بعدل واحد إشكال فلا يترك مراعاة الاحتياط في الصورتين، ولا يثبت الحكم في المقامين بالظنّ وإن كان قويّاً: ولا بالشكّ اخلاّ الخارج قبل الاستبراء كما عرفته سابقاً 1.
1 ـ قد ذكر في المتن لثبوت النجاسة وكذا طهارة ما ثبت نجاسته عدّة طرق:
أحدها: اليقين الذي هو حجّة بلا ريب وحجّية جميع الحجج ترجع إليه ولا يرى فيها أقوى منه وقد تقرّر في محلّه انّ حجّيته لا تحتاج إلى الجعل أصلاً.
ثانيها: اخبار ذي اليد والظاهر انّ الملاك فيه مجرّد كون صاحب اليد من دون فرق بين من كان عادلاً أو ثقة وبين من لم يكن كذل.
وقد استدلّ على حجّية قوله واخباره ـ بعد ثبوت الاتفاق وعدم وجود المخالف فيها ـ بالسيرة العقلائية بضميمة عدم الردع عنها من ناحية الشريعة والظاهر انّ المنشأ انّ من استولى على شيء فهو أدرى بما في يده وأعرف بكيفياته وأعلم بأحكامه.
ويمكن أن يستدلّ عليها أيضاً بما ورد في حجّية اليد في الملكية واماريتها عليها من انّه لولا ذلك لما بقي للمسلمين سوق بتقريب انّ نفس عدم بقاء السوق بعنوانه لا يكون علّة للمنع عن عدم ترتّب الأثر على اليد، بل العلّة في الحقيقة هي اختلال النظام، فكل ما يوجب اختلال النظام فهو محظور في الشريعة ومنه عدم ترتيب الأثر على قول ذي اليد لأنّ من المعلوم ثبوت العلم التفصيلي لنا بنجاسة أشياء كثيرة من الذبائح والفرش والثياب والأواني حتّى أيدي المسلمين في زمان ولا علم لنا بعد ذلك بطروّ مطهر عليها بوجه، فلولا اعتبار قول صاحب اليد واخباره عن طهارتها لكان استصحاب النجاسة حاكماً بنجاستها جميعاً وهو ممّا يوجب الوقوع
(الصفحة 394)
في العسر والحرج ويلزم اختلال النظام كما هو ظاهر.
واستدلّ عليها بعض الأعلام ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ بالأخبار الواردة في بيع الدهن المتنجّس الآمرة باعلام المشتري بنجاسته حتّى يستصبح به فانّه يدل على اعتبار قول صاحب اليد لدلالته على وجوب الاستصباح على المشتري عقيب اخبار البائع بالنجاسة.
وفيه: أوّلاً انّ إخبار البائع بنجاسة الدهن يحصل منه عادة العلم للمشتري حيث إنّ إخباره بتنجّسه الملازم لفوات منفعته الغالبية موجب لتنزّل قيمته ونقصانها ضرورة انّ الدهن المتنجّس قيمته أقلّ من الدهن الطاهر بمراتب والعاقل لا يخبر بنقصان قيمة ماله مع عدم كونه كذلك في الواقع فاخبار البائع في تلك الروايات موجب لثبوت العلم للمشتري عادةً.
وثانياً: انّه لا يستفاد من تلك الروايات وجوب ترتيب الأثر للمشتري على قول البائع واخباره مطلقاً إذ من الحتمل وجوب الاخبار على البائع ووجوب ترتيب الأثر على المشتري على تقدير حصول العلم له من اخباره لا مطلقاً فتدبّر.
وبعبارة اُخرى: محطّ النظر في الروايات وجوب الإعلام مطلقاً لا وجوب ترتيب الأثر كذلك، ويؤيّده انّه ربما يكون المشتري عالماً بالطهارة وبأنّ البايع قد خطأ في اعتقاد النجاسة واخباره بها.
وبما ورد في رواية ابن بكير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلاً ثوباً فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه؟ قال: لا يعلمه، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: يعيد.
فإنّ ظاهر قوله: وهو لا يصلّي فيه انّه لا يصلّي فيه لنجاسته، وعليه فالرواية تدلّ على اعتبار خبر المعير بنجاسة الثوب المستعار بحيث لو أخبر بها يجب على المستعير أن يعيد صلاته.
(الصفحة 395)
وفيه أوّلاً: انّها ضعيفة من حيث السند.
وثانياً: انّها متضمّنة لما لم يقل به أحد ظاهراً وهو وجوب الإعادة على من صلّى في ثوب لم يعلم انّه نجس مع انّ ظهور قول السائل: وهو لا يصلّي فيه في انّه لا يصلّي فيه لنجاسته محلّ نظر إلاّ أن يقال بشموله لباب النجاسة من طريق ترك الاستفصال في الجواب فتدبّر.
وكيف كان فالعمدة في حجّية خبر صاحب اليد ما ذكرنا من استمرار السيرة العقلائية على ترتيب الأثر عليه وعدم ثبوت الردع عنها في الشريعة.
ثالثها: شهادة عدلين المعبّر عنها بالبيّنة ولابدّ من ملاحظة انّ البيّنة هل هي حجّة معتبرة في إثبات جميع الموضوعات الشرعية إلاّ ما خرج بالدليل كالزنا فانّه لا يكاد يثبت بالبيّنة بمعنى شهادة عدلين بل يعتبر في ثبوته شهادة أربعة عدول أو هي حجّة معتبرة مختصّة بباب القضاء؟
وليعلم انّ البيّنة في الكتاب والسنّة لم تستعمل إلاّ بمعنى مطلق ما به البيان وما يثبت به الشيء كما هو معناها لغةً فانّ البيّنة بمعنى شهادة عدلين اصطلاح جديد حدث بين الفقهاء ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ .
وإليك بعض الآيات من الكتاب الكريم والروايات من السنّة المستعملة فيهما لفظة «البيّنة»:
فمن الآيات قوله تعالى: (قل انّي على بيّنة من ربّي)(1) وقوله ـ عزّ من قائل ـ : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر)(2) وقوله ـ عزّوجلّ ـ :
- 1 ـ الأنعام : 75 .
2 ـ النحل : 44 .
(الصفحة 396)
(ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حي عن بيّنة)(1) ومثلها من الآيات الكثيرة المستعملة فيها هذه اللفظة ولا يكون المراد منها إلاّ ما به البيان والدليل والحجّة.
ومن الروايات قوله (صلى الله عليه وآله) : «انّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان». فانّها فيه بمعنى الدليل والحجّة.
إن قلت: لو كانت البيّنة في الرواية بمعنى مطلق الدليل والحجّة فما وجه ذكر الايمان بعدها ولا يعلم له خصوصية موجبة لذلك؟
قلت: اليمين لا تكون من الأدلّة والحجج الشرعية بل هي بعد عدم الدليل والحجّة قاطعة للخصومة ورافعة للمرافعة.
وقوله (عليه السلام) في حديث مسعدة بن صدقة ـ الآتي إن شاء الله تعالى ـ بعد الحكم بحلّية الأشياء المشكوك فيها: والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة فإنّ البيّنة فيها أيضاً لا تكون بمعنى شهادة عدلين لعدم انحصار الطريق بها في ثبوت حرمة الأشياء وكون المراد من الاستبانة العلم كما لا يخفى.
إن قلت: على ما ذكرت لا يكون هناك دليل على حجّية البيّنة بمعنى شهادة العدلين في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها بعض الآثار الشرعية.
قلت: قد أفاد بعض الأعلام في مقام الاستدلال على ذلك ما مرجعه إلى انّ النبي (صلى الله عليه وآله) لمّا طبّق البيّنة بهذا المعنى اللغوي على شهادة العدلين في باب القضاء يستكشف من ذلك اعتبار شهادتهما وانّها مصداق الدليل والبيّنة وهذا يقتضي اعتبارها في جميع الموارد إلاّ فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه وحيث لم يرد دليل يمنع عن اعتبارها في النجاسة كما منع عنه في الزنا لا يبقى شبهة في ثبوت
(الصفحة 397)
النجاسة بشهادة عدلين.
ويمكن الإيراد عليه بأنّ غرض الشارع في باب القضاء إنّما تعلّق بفصل الخصومة وقطع المنازعة المنافية للاخوة الثابتة بين أفراد المؤمنين وعليه يجوز أن يكون الشيء حجّة في باب القضاء من دون أن يكون كذلك في غير ذلك الباب كاليمين فانّه حجّة في باب القضاء فقط.
لا يقال: البيّنة في النبوي ـ المتقدّم ـ بمعنى ما به البيان والدليل والحجّة ولكنّه يستفاد من تطبيقها على شهادة العدلين انّها أيضاً حجّة ودليل معتبر مطلقاً.
لأنّه يقال: هذا التطبيق هل هو شرعي تعبّدي أو عرفي؟ فعلى الأوّل لا مجال للاسراء إلى غير باب القضاء لعدم وقوع التطبيق الشرعي في غيره وعلى الثاني يتوجّه السؤال عن انّه ما وجه التطبيق على شهادة العدلين فقط لعدم انحصار ما به البيان فيها عرفاً وثبوت المصاديق الاُخر أيضاً من كتابة ونحوها، فيستكشف من ذلك انّ البيّنة في النبوي بمعنى شهادة العدلين فقط ويشهد لذلك انحصار الحجّة بها في باب القضاء وقبح أن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : انّما أقضي بينكم بالبيّنات، بحيث كان المراد الاستعمالي مطلق ما به البيان والمراد الجدّي الذي يبتني عليه العمل خصوص شهادة العدلين. فالأولى أن يقال: إنّ المراد من البيّنة في النبوي خصوص شهادة العدلين ولا يمكن الاستدلال به على حجّيها في سائر الأبواب.
نعم يمكن أن يستدل على حجّية البيّنة المصطلحة مطلقاً بوجهين:
الأوّل: الإجماع.
وقد يناقش فيه أوّلاً بأنّه غير مسلم لمخالفة ابن البراج وافتائه بأنّ النجاسة انّما تثبت بالعلم فقط.
والجواب عنه انّ العلم في كلام ابن البرّاج هو ما يقابل الظنّ المطلق الذي اعتقد