(الصفحة 403)
الوحدة والتعدّد فإذا كانت الوحدة كافية فلا مجال لجعل المتعدّد موضوعاً وليس الفرق بينهما كالفرق بين البيّنة وبين الاستصحاب مثلاً فانّهما متخالفان وجعل أحدهما موضوعاً للحجّية لا ينفي كون الآخر أيضاً كذلك وهذا بخلاف المقام، كما انّه لو قيل بتعميم الحكم لخبر الواحد الثقة ولو لم يكن عادلاً تلزم اللغوية من جهتين فإنّ اعتبار العدالة ـ على ما هو معنى البيّنة في الرواية ـ لا يجتمع مع كفاية الوثاقة كما انّ اعتبار التعدّد لا يجتمع مع كفاية الوحدة فالإنصاف انّ رواية مسعدة الدالّة على اعتبار خبر العدلين في ثبوت الموضوعات تدلّ على عدم الاكتفاء بالواحد مقام المتعدّد وبالوثاقة مقام العدالة فهي صالحة للرادعية عن السيرة المذكورة فلم يثبت حجّية خبر العادل الواحد فضلاً عن الثقة، لأجله استشكل في الاكتفاء به في المتن كما عرفت.
بقي الكلام في هذه المسألة فيما أفاده في المتن من عدم ثبوت النجاسة وكذا الطهارة ما ثبتت نجاسته بالظنّ وإن كان قويّاً وكذا بالشكّ إلاّ في مورد الاستبراء.
أقول: امّا عدم الثبوت بالشكّ فواضح ضرورة انّه القدر المسلّم من مورد جريان أصالة الطهارة الجارية في المقام الأوّل واستصحاب النجاسة الجاري في المقام الثاني فلا مجال للاكتفاء به في ثبوت النجاسة أو الطهارة. نعم قد مرّ البحث في مورد الاستبراء فراجع.
وامّا عدم الثبوت بالظنّ فالظاهر انّه لابدّ من التفصيل بين الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان الذي يعبّر عنه بالعلم العادي العقلائي ويكون احتمال خلافه موهوماً عند العقلاء في الغاية بحيث لا يكون مورداً لاعتنائهم بوجه ولذا يعبّر عنه بالاطمئنان الذي معناه خلوّ الذهن عن الاضطراب الناشئ من الترديد وحصول الطمأنينة والسكون له وبين غيره من الظنون بالقول بحجّية القسم الأوّل فانّه حجّة
(الصفحة 404)
عقلائية، والنكتة فيه انّ «العلم» في مثل قوله (عليه السلام) : كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر، لابدّ وأن يؤخذ من العرف كسائر العناوين والموضوعات المأخوذة في لسان الأدلّة، والاطمئنان الذي يكون احتمال خلافه موهوماً عند العقلاء بحيث لا يعتنون به يكون علماً عندهم وإن لم يكن بعلم عندهم، فما ظنّ نجاسته بالظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان نجس بمقتضى قوله (عليه السلام) : فإذا علمت فقد قذر لأنّه من المعلوم نجاسته عرفاً.
ولا فرق فيما ذكرنا من عدم جريان الأصل مع حصول الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان وجريانه فيما إذا لم يبلغ وإن كان الظنّ قوياً بين الاُصول العملية وإن كانت أدلّتها مختلفة حيث إنّه في بعضها قد أخذ الشكّ في الموضوع كدليل الاستصحاب وفي بعضها قد جعل العلم غايته كقوله (عليه السلام) : كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر، وذلك ـ أي وجه عدم الفرق ـ انّ الشكّ في اللغة بمعنى خلاف اليقين فيشمل الظنّ والشكّ المصطلح والوهم.
نعم قد عرفت انّ الظنّ القوي البالغ مرتبة الاطمئنان داخل عرفاً في العلم واليقين، وعلى تقدير عدم كونه كذلك لغة يكون مقتضى المقابلة بينه وبين اليقين في أدلّة الاستصحاب هو الحمل على كون المراد به خلاف اليقين.
فانقدح ممّا ذكرنا وجه جريان الاُصول العملية في مورد الظنّ بخلافها وعدم جريانها إذا كان الظنّ علماً عرفاً فتدبّر جيّداً.
(الصفحة 405)
مسألة 4 ـ العلم الإجمالي كالتفصيلي فإذا علم بنجاسة أحد الشيئين يجب الاجتناب عنهما إلاّ إذا لم يكن أحدهما قبل حصول العلم محلاًّ لابتلائه فلا يجب الاجتناب عمّا هو محلّ ابتلائه، وفي المسألة إشكال وإن كان الأرجح بالنظر ذلك، وفي حكم العلم الإجمالي الشهادة بالإجمال إذا وقعت على موضوع واحد، وامّا إذا لم ترد شهادتهما عليه ففيه إشكال فلا يترك الاحتياط فيه وفيما إذا كانت شهادتهما بنحو الإجمال حتّى لديهما 1.
1 ـ أقول: امّا كون العلم الإجمالي ـ الذي يكون المراد به هي الشبهة المحصورة كما يظهر من التفريع ـ كالتفصيلي فلأجل كونه أيضاً منجّزاً عند العقلاء لأنّ التنجيز ليس إلاّ مجرّد صحّة احتجاج المولى على العبد وجواز عقوبته على مخالفة التكليف الواقعي كما يظهر بالمراجعة إلى العقلاء الذين هم المرجع في مثل المقام ممّا يرجع إلى الإطاعة والعصيان وما يترتّب عليهما من استحقاق الجنان والنيران وغيره من الآثار، ومن الواضح انّه لا فرق عندهم في تنجّز التكليف المعلوم بين ما إذا كان تعلّق العلم به على سبيل التفصيل أو كان تعلّقه به على نحو الإجمال بأن كان المعلوم مردّداً بين أمرين أو أزيد، فكما انّه يكون العبد عاصياً مستحقّاً للعقوبة فيما لو ارتكب الخمر المعلوم تفصيلاً كذلك يكون مستحقّاً لها فيما لو شرب جميع الأواني التي يكون في أحدها الخمر إجمالاً أو الآنية المشتملة عليها كما لا يخفى.
وامّا استثناء صورة ما إذا لم يكن أحدهما قبل حصول العلم محلاًّ لابتلائه فهو يبتني على ما هو المشهور بين من تأخّر عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) من انّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محلاًّ للابتلاء حال حدوث العلم وحصوله، والأصل في هذا الشرط ـ مع انّ القدرة العقلية متحقّقة ـ حكم العرف والعقلاء باستهجان توجّه التكليف بالاجتناب عمّا لا يكون محلّ ابتلائه بأن يقال
(الصفحة 406)
له: اجتنب عن الخمر الموجودة في الناحية البعيدة من الأرض التي لا تكون محل ابتلاء المكلّف بوجه، أو يقال له: اجتنب عن الخمر الموجودة في القمر ـ مثلاًـ فمن ذلك يستكشف انّ من شرائط حسن توجّه التكليف وعدم استهجانه أن يكون المكلّف به مورداً لابتلاء المكلّف بحيث لو لم يكن هناك تكليف كان من الممكن تحقّقه منه وارتكابه له وعليه فلو كان أحد أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن الابتلاء قبل حصول العلم وحدوثه لا يتحقّق للمكلّف العلم بالتكليف على كل تقدير لأنّ ثبوته انّما هو على تقدير كون متعلّقه غير الطرف الخارج عن محل الابتلاء وهو غير معلوم، فيصحّ أن يقال: إنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه مورداً للابتلاء.
هذا ولكن الذي حقّقه الماتن ـ دام ظلّه ـ في مباحثه الاُصولية انّ العلم الإجمالي منجّز على أي نحو كان ـ ولو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء بالإضافة إلى بعض المكلّفين ـ لعدم توجّه الخطاب الشرعي إلى خصوص ذلك المكلّف حتّى تلزم البشاعة والاستهجان فإنّ الخطابات الشرعية بأجمعها متوجّهة إلى عموم المكلّفين ولا ينحل كلّ واحد منها إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين فانّ الخطاب واحد والمخاطب متعدّد ولا يوجب تعدّد المخاطب تعدّد الخطاب أصلاً، وفي هذا النحو من الخطاب لا مجال لملاحظة أحوال آحاد المكلّفين من حيث ثبوت الابتلاء وعدمه لعدم تحقّق الاستهجان مع عدم الابتلاء بإضافة إلى بعض المكلّفين كما هو ظاهر، وعليه فلا مجال لهذا الاشتراط في باب تنجيز العلم الإجمالي وقد مرّ الكلام في ذلك في بعض المباحث السابقة، ولكنّه يظهر من المتن هذا الميل إلى ما هو المشهور بين الشيخ الأنصاري ومن تأخّر عنه من مدخلية الابتلاء بجميع الأطراف في المنجزية ولعل منشأه انّ الأرجح بالنظر استلزام تعدّد
(الصفحة 407)
المخاطب لتعدّد الخطاب وانحلال الخطابات الشرعية العامّة إلى الخطابات المتعدّدة حسب تعدّد المكلّفين والتحقيق في محلّه. هذا كلّه فيما يتعلّق بالعلم الإجمالي.
وامّا الشهادة بالإجمال فتارة يكون المراد بها هو قيام البيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن ولكنّه تردّد المكلّف بعده بين أن يكون ما قامت البيّنة على نجاسته هل هو هذا الثوب مثلاً أو ذلك الثوب فالإجمال إنّما نشأ من المكلّف من دون أن يكون في أصل الشهادة إجمال، واُخرى يكون المراد بها هو قيام البيّنة على نجاسة أحد الثوبين بنحو الإجمال بأن لم يكن الثوب النجس معلوماً للشاهدين إلاّ بنحو الإجمال ولم يشهدا إلاّ بمثل ذلك.
امّا إذا كان المراد بها المعنى الأوّل فقد فصل فيه في المتن بين ما إذا وقعت الشهادة على موضوع واحد فهي حجّة معتبرة وبين ما إذا لم ترد عليه فاستشكل فيه والظاهر انّ مراده من الموضوع الواحد هي الوحدة النوعية في النجاسة التي يشهدان بها بأن كان مورد الشهادة هي النجاسة الحاصلة من الدم ـ مثلاً ـ أو من البول ـ كذلك ـ ولم يفترقا من هذه الجهة بأن شهد أحدهما بنجاسة الثوب من جهة ملاقاته للدم والاُخرى بنجاسته من ناحية ملاقاة البول، والوجه في حجّية الشهادة الإجمالية في هذه الصورة إطلاق دليل حجّية البيّنة وشمولها للشهادة الإجمالية بهذه الكيفية فإنّ قيام البيّنة على نجاسة الثوب المعيّن لا يخرج عن وصف الحجّية بمجرّد تردّد المكلّف وزوال وصف التعين بنظره، هذا مع وحدة الموضوع، وامّا مع تعدّده وعدم ورود الشهادة على الموضوع الواحد بالمعنى المذكور فالوجه في الاستشكال فيه انّ المستفاد من دليل حجّية البيّنة اعتبارها فيما إذا شهدا بشيء واحد والدم والبول أمران متعدّدان وإن كانا مشتركين في أصل النجاسة إلاّ انّهما نوعان منهما ولهما آثار مختلفة من تعدّد الغسل وعدمه بل الظاهر انّه مع عدم