(الصفحة 434)
وليكن ذلك هو الأعيان النجسة بل المتنجّسات أيضاً ولو كان الماء وارداً ـ على خلاف السيّد المرتضى (قدس سره) حيث فصل بين الوارد والمورود ـ ولا يستفاد من مفهومه انّ المنجس أو المتنجّس منجس للماء في جميع الأحوال والكيفيات وإن لم يستقر معه.
وامّا الروايات الخاصّة فلأنّه لم يرد شيء منها في انفعال الماء القليل غير المستقرّ مع النجس، وانّما وردت في القليل المستقرّ مع الميتة أو الدم ونحوهما، وعليه فلا إطلاق في شيء من الدليلين حتّى يشمل المقام ويكون القول بعدم انفعال القليل غير المستقرّ مع النجس تقييداً للمطلقات أو تخصيصاً للعمومات».
ولا يخفى ما في كلامه من وجوه النظر:
امّا أوّلاً: فلأنّ ظاهر رواية علي بن جعفر انّ الأرض لو كان نجساً وصار جافّاً يطهر بمجرّد الجفاف لمكان نفي البأس عن الموضع الجاف من الأرض مطلقاً ويؤيّد ما استظهرنا منها رواية معلى بن خنيس المذكورة في أوائل المسألة حيث إنّه قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخنزير يخرج من الماء ويمرّ على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافياً؟ فقال: أليس ورائه شيء جاف؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس انّ الأرض يطهِّر بعضه بعضاً. فإنّ ظاهرها ملازمة الجفاف مع الطهارة.
وامّا ثانياً: فلأنّ المتفاهم العرفي من قوله (عليه السلام) إذا كان جافّاً فلا بأس، الملازمة النوعية بين الجفاف والشكّ في النجاسة، فإنّ الإنسان يشكّ ـ نوعاًـ في نجاسة الموضع الجاف من الكنيف بخلاف ما لو كان مرطوباً فإنّ الرطوبة امّا أن تكون من نفس البول والعذرة، وامّا أن تكون من الماء الملاقي لهما أو للموضع المتنجّس بهما، فالجفاف ملازم للشكّ في النجاسة نوعاً.
وامّا ثالثاً: فلأنّه لو سلم عدم الملازمة بين الجفاف والشكّ في النجاسة وبين
(الصفحة 435)
الرطوبة والعلم بها نوعاً نقول: إنّ النسبة بين رواية علي بن جعفر المفصلة بين الجفاف والرطوبة وبين أدلّة تنجيس المتنجّس عموم من وجه ومادّة الاجتماع لهما ما لو كان أرض الكنيف جافّاً معلوم النجاسة ولا وجه لترجيح الرواية على تلك الأدلّة لو لم نقل بترجيح العكس نظراً إلى كثرة الروايات الدالّة عليه واعتبارها فتدبّر.
وامّا رابعاً: فلأنّه لو لم يكن في أدلّة انفعال الماء القليل إطلاق يشمل مطلق المياه القليلة الملاقية للنجس فلا محيص من اختيار التفصيل الذي ذهب إليه السيّد (قدس سره)والحكم بثبوت الفرق بين ما لو ورد النجس على الماء القليل فينجس وما لو ورد الماء على النجس فلا ينجس مطلقاً من دون فرق بين صورة الاستقرار وعدمه لورود أدلّة الانفعال في الأوّل فقط والمفروض انّه لا إطلاق في المسألة أصلاً.
وبالجملة: امّا أن يقال بإلغاء الخصوصية من الأدلّة الخاصّة الواردة في انفعال الماء القليل، وامّا أن يقال بالعدم؟ فعلى الأوّل لابدّ من الالتزام بأنّ الملاك في الانفعال مجرّد الملاقاة من دون فرق بين ورود النجس على الماء والعكس وبين الاستقرار وعدمه. وعليه فمقتضى الأدلّة الانفعال في مورد رواية علي بن جعفر أيضاً فالأخذ بها يوجب التقييد فيها لا محالة، وعلى الثاني لا محيص عن الأخذ بفتوى السيّد والتفصيل الذي يقول به كما لا يخفى، فالجمع بين نفي التفصيل وعدم ثبوت الإطلاق في أدلّة الانفعال وإلغاء الخصوصية من الأدلّة الواردة في الموارد الخاصّة والالتزام بمفاد رواية علي بن جعفر من دون أن يكون مستلزماً للتقييد ممّا لا يستقيم والحقّ ما عرفت من انّه لا وجه لتقديم الرواية على تلك الأدلّة بعد كون النسبة عموماً من وجه لو لم يكن الترجيح معها لما مرّ. وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام كون المتنجّس منجساً في الجملة وانّ أدلّة القائل بالعدم كلّها مندفعة،
(الصفحة 436)
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
المقام الثاني: في انّه هل المتنجس منجس في خصوص ما إذا كان تنجّسه بملاقاة النجس بلا واسطة أو يعمّ المتنجّس مع الواسطة أيضاً، وعلى التقدير الثاني هل يختص الحكم بما إذا كانت الواسطة قليلة كالواحدة والاثنتين أو يعمّ ما إذا كانت الواسطة كثيرة أيضاً؟ والشهرة مع التعميم مطلقاً.
واستدلّ للمشهور بروايات:
ومنها: صحيحة البقباق قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلاّ سألته عنه فقال: لا بأس به حتّى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس لا تتوضّأ بفضله واصبب ذلك الماء، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء.
والاستدلال بها يتوقّف:
أوّلاً: على كون قوله (عليه السلام) : رجس نجس، علّة للحكم بعدم جواز شربه والتوضّأ منه فهي تعمّم الحكم بعدم الجواز من الكلب إلى كل نجس لأنّ العلّة تعمّم الحكم كما انّها قد تخصّصه.
وثانياً: على صحّة إطلاق الرجس والنجس على المتنجّس واستعمالهما فيه حقيقة كما في النجس، وعلى ما ذكر فيقال في الملاقي الأوّل للمتنجس هذا الشيء لاقى النجس وكل ما لاقى النجس لا يجوز شربه ولا التوضّأ منه وهكذا يقال في الملاقي للمتنجّس الثاني أو الثالث فصاعداً.
ولكن التحقيق يقتضي خلاف ذلك وانّ قوله: رجس نجس لا يكون علّة للحكم بعدم جواز الشرب والتوضأ كيف وقد ذكر في ذيل الصحيحة حكم لا يمكن أن يكون معلّلاً بهذه العلّة وهو وجوب الغسل بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء وهل ترى
(الصفحة 437)
من نفسك أن تقول كل نجس لابدّ أن يغسل بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء لأنّه رجس نجس؟! مع انّ إطلاق الرجس على كل نجس فضلاً عن المتنجّس ممنوع لما عرفت سابقاً من انّ الرجس بمعنى الخباثة والقذارة المعنوية الثابتة في بعض الأعيان النجسة كالكلب ونحوه ولا يصحّ إطلاقه على المتنجّس بوجه، فالاستدلال بالرواية لمذهب المشهور غير تامّ.
ومنها: رواية معاوية بن شريح قال: سأل عذافر أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار ولافرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال: نعم اشرب وتوضأ منه، قال: قلت له: الكلب؟ قال: لا، قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله انّه نجس لا والله انّه نجس. فإنّ ظاهرها انّ العلّة في الحكم بعدم جواز الشرب والتوضؤ من سؤر الكلب انّما هي نجاسة ما باشره وهو الكلب فيتعدّى منه إلى كل ما هو نجس أو متنجّس لإطلاق النجس على المتنجس كإطلاقه على الأعيان النجسة وقد عرفت انّ إطلاق المتنجس في مقابل النجس اصطلاح حادث ولا يرى منه في الروايات عين ولا أثر فتدبّر.
هذا ولكن الرواية ضعيفة ـ سنداً ـ بمعاوية ـ مع انّ العلّية فيها لا تكون بواضحة.
ومنها: حسنة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه ثمّ حسر عن ذراعيه ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى ثمّ قال: هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة الحديث.
فإنّ مفهومها انّ الكفّ إذا لم تكن طاهرة فلا يجوز التوضّي بإدخالها في الماء القليل ولا وجه له إلاّ تنجّس الماء القليل وانفعاله بملاقاة اليد المتنجّسة، وإطلاقها يشمل الكفّ المتنجسة مطلقاً ـ سواء كانت متنجّسة بلا واسطة أو معها ـ .
ودعوى انّه لا تكون الرواية ظاهرة في انّ عدم جواز إدخال اليد المتنجسة في
(الصفحة 438)
الماء القليل يكون مستنداً إلى كونها منجسة للماء لاحتمال استناده إلى عدم جواز الغسل والوضوء من الماء المستعمل في رفع الخبث كالمستعمل في رفع الحدث مع ثبوت الطهارة له في نفسه.
مدفوعة أوّلاً: بأنّه خلاف ما هو المتفاهم من الرواية عرفاً لأنّ الظاهر منها كذلك انّ المنع عن التوضؤ بذلك الماء يكون معلولاً للنجاسة الحاصلة له من ملاقاة اليد المتنجسة وتأثره بها كما لا يخفى.
وثانياً: بأنّ الماء الذي أدخل فيه اليد المتنجسة لا يطلق عليه كونه مستعملاً في رفع الخبث فإنّ الملاقاة مع الخبث أمر والاستعمال في رفعه أمر آخر، ومجرّد كون الماء أحد طرفي الملاقاة لا يصحّح هذا الإطلاق بوجه كما يظهر بمراجعة العرف.
وثالثاً: بأنّه لو كان الاستناد إلى كونه مستعملاً في رفع الخبث لكان اللازم تخصيص الحكم بعدم الجواز بمثل الوضوء فلا يكون ـ حينئذ ـ مانع من جواز شربه ولا سائر الانتفاعات به مع انّ صحيحة محمد بن أبي نصر ـ المتقدّمة ـ التي سأل فيها عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة، وأجاب (عليه السلام) بأنّه يكفي الإناء ظاهر في المنع عن استعماله مطلقاً وهي قرينة على عدم كون الحكم في هذه الرواية له خصوصية بل المراد عدم الجواز كذلك ولا ينطبق ذلك إلاّ على حصول الانفعال له بملاقاة الكفّ المتنجّسة كما هو ظاهر.
ثمّ إنّ بعض الأعلام في الشرح بعد الاعتراف بدلالة الأخبار على منجسية المتنجّس ولو مع الواسطة وانّها غير قابلة للمناقشة قال ما ملخّصه: «انّا مع هذا كلّه نحتاج من التشبّث بذيل الإجماع وعدم القول بالفصل لأنّ مورد الاخبار انّما هو الماء وهو الذي لا يفرق فيه بين المتنجّس بلا واسطة والمتنجّس معها، والتعدّي عنه إلى الجوامد لا يتمّ إلاّ بالإجماع وعدم القول بالفصل بين الماء وغيره لأنّا نحتمل