(الصفحة 454)
عن الدم. ومن المعلوم انّه لا ملازمة بين الاستطاعتين وعليه فلا يبقى مجال لشيء من الجوابين.
والإنصاف ظهور المضمرة ـ بعد حملها التعليل فيها على ما ذكرنا وبعد وضوح كون المراد من الاستطاعة هي الاستطاعة العرفية التي تكون نقيضاً للمشقّة العرفية وبعد عدم كون المفروض في السؤال عدم ثبوت هذه الاستطاعة للرجل وهو يدلّ على كون المراد هي الاستطاعة النوعية لا الشخصية كما لا يخفى ـ في انّ الملاك للعفو هي المشقّة العرفية في غسل الثوب متعدّداً وبالإضافة إلى كلّ صلاة ولا يقدح في الاستدلال بها الإضمار بعد كون منشأه ذكر الإمام (عليه السلام) المروي عنه في أوّل الكتاب ثمّ الإشارة بالضمير إليه في باقي الكتاب ويؤيّده تكثّر مضمراته. نعم هي دالّة على وجوب غسل كلّ يوم مرّة. ومن المعلوم انّ المراد باليوم فيه هو اليوم والليلة ولم يلتزم به الأصحاب وسيأتي البحث فيه.
وممّا ذكرنا ظهر حال صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في السرائر وانّه لا دلالة لقوله (عليه السلام) : ولا حبس دمها على استمرار السيلان ودوام الجريان فانّ الظاهر انّ المراد منه هو الحبس بنحو الانقطاع الكلّي المساوق للبرء لا حبسه ولو في ساعة أو لحظة ـ مثلاً ـ وقد عرفت انّ عطف الانقطاع على البرء في بعض الروايات عطف تفسير وتوضيح. نعم يبقى الدلالة على وجوب غسل الثوب في كل يوم مرّة ولا مانع من الحمل على الاستحباب لصراحة بعض الروايات المتقدّمة في عدم الوجوب كرواية أبي بصير المشتملة على قوله (عليه السلام) : ولست أغسل ثوبي حتّى تبرء وغيرها ممّا يأبى عن تقييده بالغسل مرّة في كلّ يوم مع انّ ظهورهما في الوجوب في نفسه ضعيف لأنّهما مسوقتان لنفي وجوب الزائد على المرّة لا لإفادة وجوبها كما لا يخفى.
(الصفحة 455)
وقد انقدح ممّا ذكرنا صحّة ما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ من انّ الميزان في العفو أحد الأمرين; امّا أن يكون في التطهير والتبديل مشقّة على النوع فلا يجب مطلقاً أو يكون ذ لك حرجياً عليه مع عدم المشقّة النوعية فلا يجب بمقدار التخلّص عنه. فإنّ الأمر الأوّل هو الذي يستفاد من المضمرة بالتقريب الذي ذكرنا والأمر الثاني هو الذي يدلّ عليه دليل نفي الحرج الظاهر في الحرج الشخصي. نعم ظاهر المتن انّ ذلك مقتضى الاحتياط وانّ الفتوى هو كون دم الجروح والقروح معفوّاً عنه مطلقاً حتّى يتحقّق البرء ولعل منشأه إمكان المناقشة في حجّية المضمرة من جهة الإضمار أو استبعاد حمل المطلقات على صورة وجود المشقّة وقد عرفت انّ الاضمار في الرواية لا يقدح في اعتبارها لأنّ منشأه ما ذكرنا والاستبعاد في غير محلّه لما عرفت من انّه مع عدم فرض وجود المشقّة العرفية النوعية في مورد رواية سماعة قد جعله الإمام (عليه السلام) في الجواب علّة للعفو وعدم وجوب غسل الزائد على المرّة فيستفاد من ذلك وجود هذه المشقّة نوعاً وعليه فلا استبعاد في حمل المطلقات على صورة وجودها فالأحوط الوجوبي رعايتها كما لا يخفى.
بقي الكلام في حكم دم البواسير التي هي علّة وقروح باطنية في أطراف المقعدة قد تنفجر وتسيل دمها في مقابل النواسير التي هي قروح خارجية حوالي المقعدة أو غيرها وكذا حكم سائر القروح والجروح الباطنية الخارج دمها إلى الظاهر وقد نفى في المتن خلوّ كونه كسائر القروح والجروح عن القوّة ولكنّه ربّما يشكل بأنّ عموم الحكم للباطني من القروح والجروح غير ظاهر لأنّ إطلاق اللفظين ظاهر في الظاهر والباطن يحتاج إلى التقييد ولا يفهم من قول القائل زيد فيه جرح أو قرح إلاّ الجرح والقرح الظاهران.
ويندفع الإشكال بمنع الظهور في الظاهر ضرورة أنه يصحّ أن يقال للمبتلى بدم
(الصفحة 456)
البواسير انّ به قرحة من دون تقييد الباطن. نعم لا ملازمة بينه وبين سائر القروح الباطنية كقرح الصدر أو المعدة أو نحوهما لأنّها وإن كان يصدق عليها الفرج حقيقة ولا حاجة فيها إلى التقييد أيضاً إلاّ انّ الظاهر انصراف القرح الوارد في الفتاوى والنصوص عن مثلها لأنّ المتفاهم منه عرفاً هو القرح الذي يصيب دمه الثوب والبدن عادة ومن الواضح عدم ثبوت هذا الوصف فيها فلا مجال لتوهّم شمول الأدلّة لها خصوصاً إذا كان مثل دم الاستحاضة.
ويمكن أن يكون إطلاق المتن أيضاً ناظراً إلى هذه الصورة ولم يكن المراد كل قرح باطني خرج دمه إلى الظاهر حتّى يشمل مثل قرح الصدر والمعدة بل المراد القروح الباطنية التي يخرج دمها إلى الظاهر ويصيب الثوب أو البدن عادة مثل دم البواسير فتدبّر، كما انّه لا تبعد دعوى انّ العفو في القروح والجروح الظاهرية انّما هو بالإضافة إلى الدم الواقع في المحل الذي يصيبه عادة من الثوب والبدن، وامّا إذا أصاب ما يكون أجنبياً بالإضافة إليه كما لو أصاب دم القرحة التي في رجله رأسه أو عمامته فلا يتحقّق العفو بالنسبة إليه.
(الصفحة 457)
الثاني: الدم في البدن واللباس إن كانت سعته أقلّ من الدرهم البغلي ولم يكن من الدماء الثلاثة: الحيض والنفاس والاستحاضة، ونجس العين والميتة على الأحوط في الاستحاضة وما بعدها وإن كان العفو عمّا بعدها لا يخلو عن وجه، بل الأولى الاجتناب عمّا كان من غير مأكول اللحم، ولما كانت سعة الدرهم البغلي غير معلومة يقتصر على القدر المتيقّن وهو سعة عقد السبابة 1.
1 ـ في هذا الأمر جهات من الكلام:
الاُولى: لا إشكال ولا خلاف في ثبوت العفو عمّا دون الدرهم من الدم، بل عن جمع من الأصحاب دعوى الإجماع بالنسبة إلى الثوب ويأتي البحث في مشاركة البدن للثوب في الجهة الثانية ـ إن شاء الله تعالى ـ كما انّه لا شبهة في عدم ثبوت العفو فيما زاد على الدرهم وانّما الإشكال والخلاف فيما إذا كان بقدره من غير زيادة ولا نقصان وإن كان هذا الفرض نادر التحقّق وإحرازه صعباً فالمستفاد من مثل المتن ممّا علق فيه الحكم بالعفو على ما إذا كانت سعته أقلّ من الدرهم أو ما إذا كان دونه أو مثلهما من التعبيرات عدم ثبوت العفو في المساوي كما ربّما نسب إلى المشهور بل عن الخلاف الإجماع عليه وعن كشف الحقّ نسبته إلى الإمامية.
ولابدّ من ملاحظة الروايات فنقول:
منها: صحيحة عبدالله بن أبي يعفور في حديث قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعدما صلّى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة. ودلالتها على عدم ثبوت العفو في المساوي ظاهرة.
ومنها: مرسلة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) انّهما قالا: لا بأس أن يصلّي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرّقاً شبه
(الصفحة 458)
النضح وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم. وهي أيضاً تدلّ على ذلك لكنها بالمفهوم.
ومنها: مصحّحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسل حتّى صلّى فليعد صلاته، وإن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة.
والاحتمالات الجارية في الرواية ثلاثة:
أحدها: أن تكون مهملة غير متعرّضة لفرض المساوي بلا زيادة ولا نقصان نظراً إلى ندرة تحقّقه وصعوبه إحرازه كما مرّ فلا دلالة لها على حكمه بوجه.
ثانيها: أن تكون متعرّضة لبيان حكمه أيضاً، غاية الأمر بالمفهوم وهو مفهوم الجملة الاُولى الدال على وجوب الإعادة فيما إذا لم يكن أقلّ من قدر الدرهم، وعليه فالجملة الثانية يكون تصريحاً بحكم أحد فردى المفهوم للجملة الاُولى والوجه في التصريح به كون الفرد الظاهر غير نادر التحقّق.
ثالثها: عكس الثاني وهو أن تكون الرواية دالّة على بيان حكم المساوي بمفهوم الجملة الثانية الدالّة على وجوب الإعادة فيما إذا كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسل حتّى صلّى وتكون الجملة الاُولى تصريحاً بحكم أحد فردي المفهوم للجملة الثانية والوجه في التصريح به ما مرّ.
ثمّ انّ الاحتمال الأوّل مخالف لظاهر الرواية حيث إنّها ظاهرة في التعرّض لحكم جميع فروض المسألة والإهمال بالنسبة إلى بعض الفروض ينافي ذلك والاحتمال الثالث بعيد لأنّ التصريح بالمفهوم قبل المنطوق خصوصاً مع كون المفهوم المصرّح به بعض الأفراد لإتمامه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف في مثل هذا النحو من التعبيرات وهذا بخلاف التصريح به بعد المنطوق فإنّه أمر شائع، وعليه فالرواية