(الصفحة 464)
ينافي ثبوت العفو عنه من حيث كونه دماً كما انّه لا منافاة بين ثبوت العفو عن دم من حيث كونه دماً ووجوب إزالته من حيث ملاقاته للبول وكون العنوانين متلازمين لا يصلح مانعاً. فأجاب: بأنّه لا يخفى على المتأمّل في أخبار العفو انّها ليست مسوقة لبيان قضية طبيعية نظير قولنا : الغنم حلال والخنزير حرام حتّى يكون موضوعها صرف الطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن عوارضها المشخصة بحيث لا ينافيها خروج بعض الأفراد بواسطة تلك العوارض بل هي مسوقة لبيان الحكم الفعلي الثابت لمصاديق الدم وجزئياته المتحقّقة في الخارج. وكيف لا مع انّ رواية أبي بصير التي استثنى فيها دم الحيض ظاهرها إرادة العموم وكذا أغلب الأخبار المتقدّمة الدالّة على العفو صدرت جواباً عن السؤال عن حكم من رأى بثوبه دماً فكيف يجوز في مثل الفرض تنزيل إطلاق الجواب من غير استفصال على إرادة بيان حكم الطبيعة من حيث هي دون افرادها مع انّ السائل انّما سأل عن حكم الدم الخارجي الذي أصاب الثوب لا عن الحكم المتعلّق بطبيعة الدم من حيث هي فأخبار الباب بظاهرها تعمّ دم الكلب والكافر أيضاً.
ويرد عليه انّه بعد تسليم ثبوت النجاسة من جهتين والالتزام باجتماع نجاستين لا يبقى مجال لما ذكر من عموم أخبار الباب وشمولها لدم نجس العين ضرورة انّ الموضوع للحكم بالعفو في أدلّته هي نفس الدم من دون فرق بين رواية أبي بصير الظاهرة في العموم وبين غيرها الذي يستفاد العموم فيه من ترك الاستفصال فانّ الموضوع في جميعها هو عنوان الدم ولا يعقل أن يكون لشيء آخر فيه مدخلية لعدم حكاية عنوان الدم عن ذلك الشيء بوجه فإذا قيل يجب إكرام كل عالم يكون المتعلّق هو إكرام كلّ من كان ثابتاً له وصف العالمية ولا يعقل بلحاظ نفس هذا الدليل مدخلية شيء آخر زائد كالعدالة ـ مثلاً ـ في الوجوب لعدم حكاية عنوان
(الصفحة 465)
العالم عن ذلك الشيء أصلاً فاخبار العفو موضوعها الدم، وامّا دم نجس العين فإضافته إليها لها مدخلية في ثبوت عنوان آخر من النجاسة وهي الجزئية لها فكيف يعقل أن تكون أخبار العفو ناظرة إليها أيضاً مع انّ الالتزام بكون بصاق الكلب مانعاً ودمه القليل غير مانع ممّا لا سبيل إليه هذا ولو قطعنا النظر عن ذلك فعنوان غير المأكولية الذي هو من العناوين المانعة في قبال النجاسة لا يصير في المقام معفوّاً عنه باخبار العفو عن الدم بوجه كما لا يخفى. ولكن هذا العنوان لا يكون مانعاً بنحو الإطلاق لعدم كون أجزاء الآدمي مانعاً من هذه الجهة كما سيأتي البحث فيه في محلّه فالمشرك واليهودي والنصراني بناء على نجاستهم خارجون عن هذا العنوان بخلاف الكلب والخنزير فالظاهر بمقتضى ما ذكر عدم العفو في دم نجس العين.
ومنها: دم الميتة، والكلام فيه هو الكلام في دم نجس العين.
الجهة الرابعة: في انّه ـ بعد وضوح كون المراد من الدرهم في الأخبار الواردة في هذا الباب هو سعته دون وزنه ـ ماذا يكون حدّه ومقدار سعته.
فنقول: المحكي عن المتقدّمين تفسير الدرهم المعفوّ عمّا دونه بالوافي وعن الانتصار والخلاف وبعض آخر الإجماع عليه. وعن كثير تفسيره بالبغلي وعن بعض الأساطين انّ كون الدرهم هو البغلي من العمليات والإجماعات عليه لا تحصر والظاهر رجوع التفسيرين إلى أمر واحد لخلوّ الروايات عن هذا الوصف وادّعاء كلا الطرفين الإجماع على مدعاه مع عدم إشعار كلامهما بثبوت الخلاف في هذه الجهة وشهادة المحقّقين الباحثين في النقود الإسلامية بكون الوافي هو البغلي كما انّه له اسماً ثالثاً وهو السود، فدعوى انّه من البعيد جدّاً أن يعبّروا عن شيء واحد بتعبيرين مختلفين كما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ساقطة جدّاً.
(الصفحة 466)
ثمّ إنّه يظهر من المقريزي انّ أوّل من أمر بضرب السكّة في الإسلام هو عمر بن الخطّاب قال في محكيه: «قد تقدّم ما فرضه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نقود الجاهلية من الزكاة وانّه أقرّ النقود في الإسلام على ما كانت عليه فلمّا استخلف أبو بكر عمل في ذلك بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يغيّر منه شيء حتّى إذا استخلف أبو حفص عمر بن الخطّاب وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق لم يعرض لشيء من النقود بل أقرّها على حالها فلمّا كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة وهي السنة الثامنة (السادسة ـ ظ) من خلافته أتته الوفود منهم وفد البصرة وفيهم الأحنف بن قيس فكلّم عمر بن الخطاب في مصالح أهل البصرة فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذي قيل فيه: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ووضع الجريب والدرهمين في الشهر فضرب ـ حينئذ ـ الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها غير انّه زاد في بعضها: الحمد لله، وفي بعضها: محمّد رسول الله، وفي بعضها: لا إله إلاّ الله وحده، وفي آخر مدّة عمر وزن كل عشرة دراهم ستّة مثاقيل.
ونقل الدميري عن كتاب «المحاسن والمساوئ» انّه كانت الدراهم في ذلك الوقت يعني قبل سكة عبد الملك انّما هي الكسروية التي يقال لها اليوم يعني أيّام خلافة هارون الرشيد «البغلية» لأنّ رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خر» أي كُلْ هنيئاً.
ورأس البغل اسم يهودي، قال صاحب البرهان القاطع في مادة «درخش» درخش اسم بيت نار بناه رأس اليهود المسمّى برأس البغل وهو الذي ضرب بعد ذلك الدراهم البغلية فسمّيت باسمه وذلك في مدينة ارمنية التي بنى فيها ذلك البيت، بيت النار وهو الذي بنى شيراز أيضاً.
(الصفحة 467)
وفي مجمع البحرين بعد بيان وجه التسمية بمثل ما ذكر بناء على سكون الغين وتخفيف اللام قال: وقيل هو بفتح الغين وتشديد الياء أي بغليّ بلدة قريبة من الحلّة وهي بلدة مشهورة بالعراق والأوّل أشهر على ما ذكره بعض العارفين».
وهذا الوجه هو الذي ذكره الحلّي في السرائر، قال في محكيها: «البغلي نسبة إلى مدينة قديمة يقال لها: بغل قريبة من بابل بينهما قرب من فرسخ متّصلة ببلد الجامعين تجد فيها الحفرة والغسّالون والنباشون دراهم واسعة شاهدت درهماً من تلك الدراهم، وهذه الدراهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام والمعتاد يقرب سعته من أخمص الراحة.
وقال فيها أيضاً: «انّه قال لي بعض من عاصرته ممّن له علم بأخبار الناس والأنساب انّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي بغل رجل من كبار أهل الكوفة اتّخذ هذا الموضع قديماً وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب إليه الدرهم البغلي وهذا غير صحيح لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن رسول الله وقبل الكوفة».
وقد عرفت انّها كانت تسمّى قبل الإسلام بكسروية وحدث لها اسم البغلية في الإسلام وظهر انّ الأشهر في وجه التسمية هو الأمر الأوّل وحكى السيّد العلم الحجّة صاحب أعيان الشيعة فيها والمحدِّث الخبير المرحوم الشيخ عباس ا لقمّي في هدية الأحباب عن الفاضل المتتبّع الشيخ حيدر قلي خان المعروف بسردار الكابلي في رسالة «غاية التعديل في الأوزان والمكائيل» قال: رأيت في دائرة المعارف البريطانية انّ أوّل من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة عليّ بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660 مسيحية ثمّ أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية بل في محكي تاريخ جودت پاشا انّ أقدم سكّة رآها في خلافة عليّ كرّم الله وجهه كان مكتوباً على دائرتها التي ضربت
(الصفحة 468)
في سنة 37 للهجرة بالخط الكوفي: «ولي الله» وانّه رأى على دائرة السكّة التي ضربت في سنة 38 و 39: «بسم الله ربّي».
فعلى هذا أوّل من أحدث السكة الإسلامية وأبطل النقوش الكسروية والقيصرية المصنوعة بيد رجل يهودي معاند لشوكة الإسلام والمسلمين وساع في تخريبه وهدمه وفي ترويج النار وبيتها، هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين المتفطّن لذلك الماحي لآثار الشرك وشعائر المجوسية وما شابهها ولا يترقّب منه إلاّ ذلك ولا يتوقّع من غيره ذلك.
وكيف كان فالظاهر انّ الدرهم الشائع في زمن صدور الروايات الواردة عن الصادقين (عليهما السلام) هو الدرهم المعروف بالبغلي ولابدّ من حمل الأخبار عليه والظاهر اختلاف الدراهم المذكورة من حيث السعة والضيق لأنّها كانت مضروبة بالآلات اليدوية وهي تقتضي وجود الاختلاف لعدم الانضباط لها ومع وجود الاختلاف لا يمكن أن تكون العبرة بأجمعها لأنّ الورود مورد التحديد ينافي ذلك لاستلزامه الحكم بالعفو عن مقدار خاص باعتبار انّه أقلّ من بعض الدراهم وعدم الحكم بالعفو عنه باعتبار انّه مساو لبعض الدراهم الاُخر أو زائد عليه فلا محيص من أن يكون الملاك بعضها.
وامّا ما أفاده في المصباح من انّه لو كانت الدراهم المتعارف مختلفة المقدار فالعبرة في عدم العفو بالزيادة عن جنسها على الإطلاق فلا تضرّ زيادته عن بعض المصاديق دون بعض وهذا بخلاف ما لو قلنا بالعفو عمّا دون الدرهم لا مقداره فانّه يعتبر على هذا التقدير نقصانه عن مطلقه فلا يجدي نقصانه عن بعض مصاديقه.
ففيه انّه لا فرق بين التقديرين بعدما عرفت من انّ الورود مورد التحديد يقتضي أن يكون الملاك درهماً خاصّاً وليس المقام من قبيل المطلق الصالح للانطباق