(الصفحة 485)
الثالث: كلّ ما لا تتمّ الصلاة فيه منفرداً كالتكة والجورب ونحوهما فانّه معفو عنه لو كان متنجساً ولو بنجاسة من غير مأكول اللحم، نعم لا يعفى عمّا كان متّخذاً من النجس كجزء ميتة أو شعر كلب أو خنزير أو كافر 1.
1 ـ العفو في الصلاة عمّا لا تتمّ فيه الصلاة منفرداً في الجملة ممّا لا خلاف فيه بل ادّعى عليه الاجماع ـ صريحاً وظاهراً ـ في كلمات غير واحد من الأصحاب ويدلّ عليه النصوص المستفيضة وقد تعرّضنا لأصل المسألة في كتاب الصلاة في شرح المسألة الثامنة من مسائل الستر والساتر فراجع، والذي ينبغي التعرّض له هنا عدم ثبوت العفو فيما إذا كان متّخذاً من الميتة أو من نجس العين كالكلب والخنزير.
امّا إذا كان متّخذاً من الميتة فلأنّ مورد النصوص الدالّة على العفو هو المتنجّس دون النجس وذلك مثل موثقة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: كلّ ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشيء مثل القلنسوة والتكة والجورب. وروايته الاُخرى قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثمّ صلّيت، فقال: لا بأس. فإنّ عدم شمولهما لما إذا كان ما لاتتمّ متّخذاً من النجس بالذات واضح ولا دليل على التعدّي. هذا مضافاً إلى الروايات الواردة في المنع عن الصلاة في الخفّ إذا كان من الميتة، وفي السيف إذا كان فيه الميتة، وقد ورد في صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الميتة قال: لا تصلِّ في شيء منه ولا شسع.
نعم في مقابل ما ذكر روايتان:
إحداهما: رواية الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكة الابريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلّى فيه. لظهورها في انّ الاتصاف بعدم جواز الصلاة فيه وحده
(الصفحة 486)
يوجب رفع المانعية مطلقاً سواء كانت لأجل كونه متّخذاً من الحرير والابريسم أو كانت لأجل كونه مأخوذاً من الميتة كما هو مقتضى إطلاق نفي البأس عن الصلاة في الخف أو لأجل عروض النجاسة وحصول التنجّس أو لغيرها من الجهات.
ثانيتهما: موثقة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلّين. فقال: امّا النعال والخفاف فلا بأس بهما. فإنّ ترك الاستفصال بين ما إذا كانت النعال والخفاف نجسة بالعرض وبين ما إذا كانت نجسة بالذات دليل العموم بل الظاهر وورود الرواية سؤالاً وجواباً في خصوص الثاني لأنّ تخصيص مورد السؤال بما يكون من جنس الجلد وتقييده بما إذا لم يكن من أرض المصلّين ظاهر في كون محطّ السؤال حيثية النجاسة الذاتية المحتملة الثابتة لأجل كونها ميتة فالتفصيل في الجواب بين اللباس وبين النعال والخفاف اللذين لا تتمّ الصلاة فيهمامنفرداً دليل على ان ما لا تتمّ إذا كانت ميتة أيضاً لا مانع من الصلاة فيه واحتمال شمول السؤال للنجاسة العرضية من جهة انّ عملها في أرض الكفّار التي هي مقابل أرض المصلّين الظاهرة في أرض المسلمين يلازم غالباً نجاستها عرضاً لأجل الملاقاة مع أيديهم ومع الآلات الملاقية لها في غاية البعد.
لكن عرفت انّ في مقابلهما صحيحة ابن أبي عمير المتقدّمة الظاهرة في عدم جواز الصلاة في جزء من أجزاء الميتة بوجه وكذا تخالفهما صحيحة محمّد ابن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف، لا يدري أذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري، أيُصلّي فيه؟ قال: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي واُصلّي فيه وليس عليكم المسألة. حيث تدلّ على انّ الوجه في جواز الصلاة في الخف المشكوك هو اشترائه من سوق المسلمين
(الصفحة 487)
الذي هو امارة على التذكية وعلى عدم وجوب السؤال وانّه لو سأل فظهر كونه غير مذكّى لا تجوز الصلاة فيه. ومن الواضح انّه لو كان الخف من الميتة ممّا تجوز الصلاة فيه لأجل كونه ممّا لا تتمّ لما كان لذلك وجه أصلاً فلا فرق بين الاشتراء من سوق المسلمين وبين غيره وكذا بين المسألة وعدمها كما لا يخفى فقد تحقّق التعارض في بادئ النظر بين هاتين الصحيحتين وبين الروايتين المتقدّمتين ولكنّه عند التأمّل يظهر انّه لا معارضة في البين وذلك لأنّ رواية الحلبي دلالتها على الجواز انّما تكون بالإطلاق ومقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد أن يقيّد بالمتنجّس ويحمل على خصوصه هذا مع انّه ربّما يناقش في سندها أيضاً باعتبار اشتماله على أحمد بن هلال المرمي بالغلوّ تارة وبالنصب اُخرى.
وامّا الموثقة فربّما يقال ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ بأنّ دلالتها على الجواز انّما هي بالإطلاق ولكن قد عرفت ظهورها في خصوص بيان حكم الميتة المحتملة بل ربّما يقال بصراحتها في ذلك نظراً إلى انّ مقتضى الجواب التفصيل بين النعال والخفاف وبين لباس الجلود بالترخيص فيهما دونها ولو كان النظر إلى النجاسة العرضية أيضاً لما كان وجه لهذا التفصيل لأنّه مع الشكّ في النجاسة الذي هو مفروض السؤال يجوز الصلاة في جميع فروض السؤال لجريان قاعدة الطهارة فيها جميعاً فالتفصيل أوضح قرينة على انّ السؤال انّما كان من جهة الشكّ في التذكية الموجب للحكم بعدمها ما لم يكن هناك أمارة عليها كما لا يخفى ومع ذلك فكيف يمكن حمل الموثقة على النجاسة العرضية.
وقد يقال ـ والقائل بعض الأعلام ـ باختلاف مورد الموثقة مع مورد صحيحة البزنطي لأنّ الموثقة انّما سيقت بظاهرها لبيان جواز الصلاة فيما شكّ في تذكيته إذا لم تتمّ فيه الصلاة فلا تنافي عدم جوازها فيما اُحرز انّه ميتة وغير مذكّى لأنّ غير
(الصفحة 488)
المذكّى وإن كان بهذا العنوان مأخوذاً في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلاّ انّ ذلك فيما تتمّ فيه الصلاة ومع الشكّ في التذكية يجري استصحاب عدمها ويحكم ببطلان الصلاة فيه، وامّا ما لا تتمّ فلم يؤخذ في موضوع الحكم بعدم جواز الصلاة فيه إلاّ كونه ميتة الذي هو عنوان وجودي ومع الشكّ فلا مانع من الحكم بصحّة الصلاة فيه كما هو مفاد الموثقة لأنّ استصحاب عدم التذكية لا يثبت به عنوان الميتة وإن كان مصداقهما حقيقة شيئاً واحداً.
ويرد عليه ما عرفت من ظهور صحيحة البزنطي في كون الامارة على التذكية وهو الاشتراء من السوق الظاهر في سوق المسلمين موجبة لجواز الصلاة فيما شكّ في تذكيته مع انّه ممّا لا تتمّ فيه الصلاة فلو كان المأخوذ في الموضوع فيه عنوان الميتة لكان مجرّد الشكّ كافياً في الحكم بالجواز من دون حاجة إلى وجود الامارة على التذكية، إلاّ أن يقال: إنّ ذكر السوق في السؤال والجواب مع عدم ظهوره في خصوص سوق المسلمين انّما هو لإفادة منشأ الشكّ في التذكية وإن عدم العلم بها انّما هو لأجل اشتراء الخفّ من السوق وطبعه يقتضي الجهل بحاله.
ويؤيّد هذا القول انّ الروايات الواردة في مشكوك التذكية ممّا لا تتمّ ليس في شيء منها تقييد السوق بالمسلمين بلى في بعضها جعل الغاية لعدم الجواز العلم بكونه ميتة ولا بأس بنقل جملة منها فنقول:
منها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق فقال: اشتر وصلِّ فيها حتّى تعلم انّه ميتة بعينه.
ومنها: رواية الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : اعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال: صلِّ فيه، قلت: فالنعل، قال: مثل ذلك، قلت: إنّي اُضيق من هذا، قال: أترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله.
(الصفحة 489)
ومنها: رواية علي بن أبي حمزة انّ رجلاً سأل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ فقال: نعم، فقال الرجل إنّ فيه الكيمخت؟ قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت انّه ميتة فلا تصلِّ فيه.
ومنها: رواية سماعة بن مهران انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت فقال: لا بأس ما لم تعلم انّه ميتة. وهذا بخلاف الروايات الواردة فيما تتمّ الظاهرة في عدم الجواز مع الشكّ في التذكية.
وبذلك يظهر الفرق بين ما تتمّ وما لا تتمّ من هذه الجهة وانّه يعتبر في جواز الصلاة في الأوّل مع الشكّ في التذكية إحرازها ولو بالأمارة الشرعية ولا يعتبر في جواز الصلاة في الثاني إلاّ عدم العلم بكونها ميتة والشكّ في التذكية لا يمنع عن الصحّة بوجه.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ دلالة الموثقة على الجواز مع الشكّ لا تلازم الدلالة عليه مع العلم بكونه ميتة فما لا تتمّ إذا علم بكونه كذلك لا تجوز الصلاة فيه.
ثمّ إنّه على تقدير ثبوت التعارض بين الموثقة والصحيحة وعدم إمكان ا لجمع بما ذكر تصل النوبة بعد التساقط إلى عموم ما دلَّ على المنع عن الصلاة في النجس وتصير النتيجة موافقة لما في المتن أيضاً، هذا كلّه بالإضافة إلى الميتة.
وامّا بالإضافة إلى نجس العين فقد قال في «المستمسك» بعد بيان حكم الميتة: «ومن هذا يظهر لك وضوح استثناء ما كان من نجس العين فانّه مع انّه ميتة لعدم قبول نجس العين للتذكية انّه نجس أيضاً قبل الموت فأولى بالمانعية».
وأورد عليه بعدم اختصاص الكلام باجزاء الميتة بل البحث فيما يعمّ الميتة وغيرها كما إذا صنع قلنسوة من شعر الكلب وهو حي أو من شعر خنزير أو مشرك