(الصفحة 67)
الاستصحاب فيه لكون الموضوع الذي ثبت له النجاسة هو الماء الموصوف بوصف التغيّر والمفروض عدم بقائه فعلاً فلا مجال لاستصحاب حكمه.
والحقّ هو جريان الاستصحاب وإنّ منشأ المناقشة فيه هو الخلط بين موضوع الدليل الاجتهادي وبين موضوع الاستصحاب، بيان ذلك:
انّ الدليل الاجتهادي مثل «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» قد رتّب الحكم فيه على العنوان المأخوذ فيه كالماء المتغيّر في المثال ومع الشكّ في ثبوت هذا العنوان لا مجال للتمسّك بالدليل فضلاً عمّا إذا قطع بزواله بانتفاء بعض قيوده ولذا لو شكّ ـ ابتداء ـ في حصول التغيّر وعدمه لا يجوز التمسّك بالدليل للزوم إحراز الموضوع في شمول الدليل الاجتهادي وجريانه.
ولكن فيما إذا تحقّق العنوان خارجاً واُحرز الموضوع حقيقة وصار الماء في المثال متغيّراً بالنجاسة قطعاً يصير المصداق الخارجي معروضاً للحكم بالنجاسة الذي هو مفاد الدليل الاجتهادي فإذا تبدّل بعض حالاته وزال التغيّر من قبل نفسه وشككنا في بقاء النجاسة وعدمه من جهة احتمال كون التغيّر دخيلاً في ترتّب الحكم حدوثاً من غير اعتباره في البقاء والمفروض قصور الدليل الاجتهادي عن إفادة حكمه نفياً أو إثباتاً فلا مانع من الاستمداد من قوله: لا تنقض اليقين بالشكّ واستفادة بقاء حكم النجاسة بمعاونته نظراً إلى انّ هذا الماء كان في السابق نجساً ـ وإن كانت العلّة هي التغيّر ـ والآن نشكّ في بقائها والمفروض عدم كونه شخصاً آخر وفرداً ثانياً فأيّ مانع من جريان الاستصحاب فيه، وفي المقام نقول: إنّ موضوع النجاسة في الدليل الاجتهادي وإن كان هو عنوان الميتة وهو لا يصدق على الأجزاء بناءاً على قول صاحب المدارك إلاّ انّه لا إشكال في انّ معروض النجاسة سابقاً هي نفس هذه الأجزاء وبعد انفصال الجزء نشكّ في انّ هذا الجزء
(الصفحة 68)
الذي كان في السابق نجساً هل يكون باقياً على ما كان أم لا ولا محيص في مثله من الرجوع إلى الاستصحاب بعد فرض قصور الدليل الاجتهادي. فانقدح انّه إذا وصلت النوبة إلى الأصل يكون مقتضاه بقاء النجاسة أيضاً.
القسم الثاني: الأجزاء التي لا تحلّها الحياة من الميتة كالأمثلة المذكورة ولا إشكال في طهارتها ومغايرتها لسائر الأجزاء انّما الإشكال في انّه هل لا تكون هذه الأجزاء مشمولة لأدلّة نجاسة الميتة فلا تحتاج إلى دليل على الاستثناء بل يكفي في إثبات طهارتها القاعدة أو انّها تشملها وتحتاج إليه؟ قولان ذهب إلى الأوّل سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بدعوى انّ ما دلّ على نجاسة الميتة ـ على كثرتها ـ انّما علق فيها الحكم على عنوان الجيفة والميتة وهما بما لهما من المعنى الوضعي لا تشملان ما لا تحلّه الحياة فانّ الجيفة هي الجثّة المنتنة من الميتة والنتن وصف لما تحلّه الحياة، ولا ينتن الشعر والظفر وغيرهما من غير ما تحلّه الحياة، ودعوى انّ الجيفة وإن كانت معناً وصفياً ولكنّها صارت اسماً للمجموع الذي من جملته ما لا تحلّه الحياة، في غير محلّها لعدم ثبوت ذلك بل الظاهر من اللغة انّ الجيفة اسم للجثّة المنتنة فتكون تلك الأجزاء خارجة عن مسمّاها، ففي القاموس والصحاح «الجيفة: جثّة الميّت وقد أراح أي : أنتن» وفي المنجد: «الجيفة : جثّة الميّت المنتنة» وفيه «جافت الجيفة أي: أنتنت» والميتة ما زال عنها الروح في مقابل الحي ولا تطلق على الأجزاء التي لم تحلّها الحياة ولو بتأوّل كما تطلق كذلك على ما تحلّها، وصيرورتهما اسماً للمجموع الداخل فيه تلك الأجزاء غير ثابت فالحكم بنجاسة الجيفة والميتة لا يشمل تلك الأجزاء لا لفظاً ولا بمدد الارتكاز ـ أي ارتكاز العقلاء باسراء النجاسة إلى الأجزاء ـ فأصالة الطهارة بالنسبة إليها محكمة. انتهى كلامه.
ولكن الحقّ هو الثاني لأنّ العرف يستفيد من أدلّة نجاسة الميتة نجاستها بجميع
(الصفحة 69)
أجزائها حتّى ما لا تحلّه الحياة فانّ أهل العرف يطلقون الميتة على مجموعها والظاهر انّه لا يكون من باب التغليب والمسامحة.
إن قلت: لا فرق فيما لا تحلّه الحياة بين حال حياة الحيوان ومماته فكيف يكون في حال حياته محكوماً بالطهارة وبعدها بالنجاسة؟!.
قلت: الفرق موجود لنموّه حال حياة الحيوان وعدم نموّه بعد مماته والمراد من عدم حلول الحياة فيه هو عدم حلول الحياة الحيوانية فيه وإلاّ فالحياة النباتية موجودة في حال حياة الحيوان مرتفعة بموته مع انّه إذا أطلق العرف عليه عنوان الميتة فلا مانع من شمول الدليل له ولا تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة إلاّ انّ كثيراً من النصوص الواردة في المقام قد دلّت على طهارتها:
ففي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، انّ الصوف ليس فيه روح. ومعنى: ليس فيه روح انّه ليس من شأنه أن يكون فيه روح حتّى حال حياة الحيوان، وهذه الرواية وإن وقع التصريح فيها بحكم الصوف إلاّ انّ العلّة وهي قوله: إنّ الصوف ليس فيه روح تعمّم نفي البأس بالإضافة إلى كلّ ما ليس فيه روح في حال حياة الحيوان.
وفي موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن اللبن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة؟ فقال: كلّ هذا ذكى وقال ـ أي الكليني راوي الحديث ـ : وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال: والشعر والصوف كلّه ذكي.
وفي رواية صفوان ـ على ما قال الكليني ـ عن الحسين بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: الشعر والصو والريش وكل نابت لا يكون ميتاً قال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال: يأكلها.
(الصفحة 70)
وفي قبال هذه الروايات قد وردت روايات اُخر مشعرة بل ظاهرة في نجاسة المذكورات:
منها: رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: قال جابر بن عبدالله: انّ دباغة الصوف والشعر غسله بالماء، وأي شيء يكون أطهر من الماء. فانّ ظاهرها احتياج الصوف والشعر إلى الدباغة أي التطهير، والتعبير بالدباغة مكان التطهير لعلّه بمناسبة قول العامّة بأنّ دباغة جلد الميتة مطهرة له، وبالجملة تكون هذه الرواية ظاهرة في انّ الشعر والصوف لا يكونان طاهرين بل محتاجين إلى الدباغة لحصول الطهارة ودباغتهما غسلهما بالماء.
وفي الاستدلال بها نظر لكونها ـ مع وهنها بالنقل عن جابر إذ لا وجه لنقل الإمام (عليه السلام) عن جابر ومع عدم وجه للتعبير عن التطهير بالدباغة ـ مخالفة لفتوى الأصحاب والأخبار الكثيرة الدالّة على انّ المذكورات ذكية فلابدّ من أن تحمل الرواية على غسل موضع الملاقاة للميتة فيما إذا نتفا منها كما لا يخفى.
ومنها: ما روا يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر. والظاهر منها انحصار الذكية وما فيه منافع الخلق في الخمسة المذكورة في الرواية وإن لم نقل بثبوت المفهوم للعدد لأنّ الإمام (عليه السلام) في مقام تعداد الأشياء الذكية الكذائية قد اكتفى بالمذكورات خصوصاً مع التصريح بعنوان الخمس فالظاهر الانحصار مع انّك قد عرفت انّ كل ما ليس فيه روح ذكي ومن المعلوم ثبوت المنافع لجلّها لولا كلّها.
وقد أجاب عنها سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بأنّه من الممكن أن يكون قوله (عليه السلام): «ذكية» صفة لخمسة وخبرها بعدها فيكون المراد الاخبار بأنّ في بعض المستثنيات منافع للناس.
(الصفحة 71)
واحتماله وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ انّ مضمون الرواية يصير ـ على هذا ـ أمراً غير مرتبط بشأن الإمام (عليه السلام) ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل في آخر كلامه والصحيح في الجواب أن يقال: إنّها لا تصلح لمعارضة سائر النصوص الواردة في المقام الدالّة على طهارة كلّ ما ليس فيه روح.
ومنها: رواية الفتح بن زيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً، فكتب (عليه السلام) : لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب وكلّما كان من السخال، الصوف إن جز والشعر والوبر والأنفحة والقرن ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله تعالى. والظاهر منها انّ جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز وإنّ ما ينتفع من الميتة منحصر في المذكورات ولا يتعدّى إلى غيرها.
والجواب عنها أوّلاً ضعف سندها وثانياً وهن متنها فانّها تكون في مقام بيان ما لا ينتفع من الميتة ثمّ تنتقل إلى بيان ما ينتفع بدون ذكر كلمة : «وينتفع منها» وثالثاً مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة وفتوى الأصحاب.
ثمّ انّه قد نسب إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) التفصيل في الصوف والشعر والوبر بين ما إذا أخذ ذلك بجزّ وبين ما إذا أخذ بنتف بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني والظاهر انّ مراده عدم طهارة اُصولها المتّصلة بجلد الميتة ونجاستها نجاسة الميتة والوجه في ذلك أحد أمرين:
أحدهما: انّ الشعر والصوف ونحوهما يستصحب عند انفصاله بالنتف جزء من أجزاء الميتة ممّا تحلّه الحياة وهو غير مستثنى عن نجاسة الميتة.
ثانيهما: رواية فتح بن زيد الجرجاني ـ المتقدّمة آنفاً ـ الدالّة على اشتراط الانتفاع بالصوف بما إذا جز.
ولا يخفى ما في كلا الأمرين :