من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كانعليه قبل قيام الأمارة، بل المصلحة إنّما تكون في تطرّق الطريقوسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أنّه هو الواقعبترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى، وبهذه المصلحة السلوكيّةيتدارك ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة علىخلافه، هذا تمام كلامه قدسسره .
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ حجّيّة الأمارات المعتبرة الشرعيّة لا تكون تأسيسيّة،بل تكون بمعنى إمضاء الشرع بعض ما يعتبر عند العقلاء ومتداول بينهمبعنوان الأمارة، فأساس حجّيّة الأمارة أمرٌ عقلائي، وبعد مراجعة العقلاءيستفاد أنّ ملاك اعتبار خبر الثقة ـ مثلاً ـ عندهم لا تكون المصلحة السلوكيّة،وأنّ المصلحة الفائتة تكون منجبرة بها في صورة مخالفة الواقع، بل الملاك أنّهطريق موصل إلى الواقع غالباً في زمان انسداد باب العلم، فقيام الأمارة ليوجب حدوث مصلحة في البين.
ولكنّه مدفوع بأنّه يتحقّق هنا شيء ثالث، وهو استناد العمل إلى قيامالأمارة وتقوم المصلحة به، فتكون المصلحة الفائتة منجبرة بصلاة الجمعة التييؤتى بها مستنداً إلى قيام الأمارة، مثل: إتيان المقلّد بصلاة الجمعة مستنداً إلىفتوى المجتهد بوجوبها.
عدم الإجزاء كما قال به المحقّقون، بخلاف الاُصول العمليّة فإنّ الحقّ فيهالإجزاء بعد انكشاف الخلاف كما عليه بعض المحقّقين، فلا معنى لعدم الإجزاءبعد القول بالمصلحة السلوكيّة، وهذا دليل على عدم تحقّق المصلحة السلوكيّةأصلاً.
ولكنّه مدفوع أيضاً بأنّه من التزم بالمصلحة السلوكيّة يلتزم بلازمها أيضاً،فيمكن أن يقول الشيخ الأعظم قدسسره هنا بالإجزاء، وهذا ليس بتالي فاسدمسلّم، بل تكون مسألة مبنائيّة، فيبقى الإشكال الأوّل وحده بقوّته، ولذا لتكون المصلحة السلوكيّة جواباً عن ابن قبة.
المحذور الثالث: ما يرتبط برتبة متقدّمة على الحكم والخطاب، وهومحذور اجتماع الإرادة والكراهة أو الحبّ والبغض على مورد واحد، فإذا دلّتالأمارة على وجوب ما هو حرام في الواقع أو بالعكس لزم اجتماعهما علىمورد واحد، وهو محال.
وجوابه يتوقّف على بيان مقدّمة، وهي: توضيح مراتب الحكم الشرعيومعناها، والمستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدسسره (1) في حاشية الرسائل: أنّللحكم مراتب أربع:
الاُولى: مرتبة الاقتضاء، والمراد بها شأنيّة الحكم الموجود بمعنى وجودملاكٍ يقتضي إنشاء الحكم له كمعراج المؤمن، فإنّه يقتضي إنشاء الشارعوجوب الصلاة لاستيفاء ذلك الملاك.
الثانية: مرتبة الإنشاء، أي جعل الحكم مجرّداً عن البعث والزجر.
الثالثة: مرتبة الفعليّة، أي بعث المولى وزجره؛ بأن يقول: «افعل» أو «لتفعل» مع عدم وصوله إلى المكلّف بحجّة معتبرة من علم أو علمي، فل
(صفحه110)
توجب مخالفته ذمّاً ولا عقاباً.
الرابعة: مرتبة التنجّز أي وصول الحكم البالغ مرتبة البعث أو الزجر إلىالعبد بالحجّة المعتبرة من علم أو علمي، فتكون مخالفته حينئذٍ موجبةلاستحقاق العقوبة.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ مرتبتي الاقتضاء والتنجّز ليستا من مراتب الحكم، أمّمرتبة الاقتضاء فإنّها راجعة إلى ملاكات الأحكام وليست من مراتبها، فإنّالملاكات اُمور تكوينيّة خارجيّة، فكيف تكون من مرتبة أمر اعتباري؟! فهذهالمرتبة ليست من مراتب الحكم بل تكون من مقدّماته.
وأمّا مرتبة التنجّز فإنّها من أحكام العقل بعد تماميّة الحكم الشرعي وميترتّب على مخالفة الحكم، فما كان متأخّراً عن الحكم ومرتّباً على مخالفته لمجال لأن يجعل من مراتب الحكم.
وثانياً: أنّ الفرق بين الحكم الإنشائي والفعلي بتحقّق البعث أو الزجر فيالثاني دون الأوّل ليس بصحيح، فإنّ عدم تحقّق البعث أو الزجر في مرتبةالإنشاء دليل على عدم تحقّق الحكم هنا أصلاً بعدما كان الوجوب والحرمةبمعنى البعث والزجر الاعتباري، فكيف يكون ما لم يتحقّق فيه البعث أو الزجرمن مراتب الحكم؟!
التفسير الثاني للحكم الإنشائي والفعلي ما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1)وهو أنّ الشارع في مقام التقنين لم يتّخذ طريقاً خاصّاً بل كيفيّة تقنينه هيالكيفيّة المتداولة بين العقلاء، من جعل القانون ابتداء بصورة كلّيّة؛ بمعنى تعلّقالإرادة الاستعماليّة على العنوان الكلّي، ثمّ بيان مخصّصاته ومقيّداته بعنوانالاستثناء والتقييد في مقام الإجراء ومحدوديّة المراد الجدّي حسب ما تقتضيه
(صفحه 111)
المصالح.
والحكم الإنشائي ما هو مجعول بعنوان ضابطة كلّيّة نحو قوله تعالى: «أَحَلَّاللَّهُ الْبَيْعَ»(1)، وبعد بيان مخصّصاته ومقيّداته، مثل قوله عليهالسلام : «لا تبع ما ليسعندك»(2)، و«نهى النبيّ عن بيع الغرر»(3) يصير الحكم فعليّاً، فالحكم الفعلي متعلّقت به الإرادة الجدّيّة في مقام إتيان العمل وتحقّقه في الخارج، ومن فوائدجعل الحكم الإنشائي التمسّك بإطلاقه في موارد الشكّ، كالشكّ في حلّية بيعالمعاطاة ـ مثلاً ـ فالصحيح أنّه ليس للحكم الشرعي سوى هذين المرتبتين،وهذا هو الحقّ ومطابق للواقعيّة.
التفسير الثالث: ما ذكره بعض الأعلام قدسسره (4) من أنّه ليس للحكم إلمرتبتان:
الاُولى: مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّةالحقيقيّة، كقوله سبحانه: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِسَبِيلاً»(5)، ففي هذه الرتبة تنشأ الأحكام على موضوعاتها المقدّر وجودهبجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايالحقيقيّة.
الثانية: مرتبة الفعليّة والخروج عن التعليق والتقدير بتحقّق موضوعهخارجاً، كما إذا صار المكلّف مستطيعاً مثلاً.
وفيه: أوّلاً: أنّه كلام بلا شاهد، ومن البعيد أن يكون الحكم الواحد بالنسبة
- (2) الوسائل 18: 47، الباب 7 من أبواب احكام العقود، الحديث 2.
- (3) الوسائل 17: 448، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.