(صفحه 423)
الأمر المتعلّق بالمركّب يدعو إلى أجزائه بعين دعوته إلى المركّب، وحينئذ فلوكان الأكثر متعلّقا للتكليف يكون الأقلّ أيضا واجبا، بمعنى أنّ الأمر يدعوإليه، كما أنّه لو كان الأقلّ كذلك يكون واجبا حينئذ، فوجوب الأقلّ معلومتفصيلاً، والشكّ بالنسبة إلى الزائد شكّ بدوي تجري فيه البراءة، كما عرفت.
الإشكال السادس: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية من أنّ الانحلالمستلزم للخلف أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمه(1).
أمّا الخلف فلأنّه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلاً إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّزالتكليف مطلقا ولوكان متعلّقا بالأكثر؛ ضرورة أنّه لو لم يتنجّز على تقديرتعلّقه به لم يكن الأقلّ واجبا بالوجوب الغيرى؛ لأنّه تابع لوجوب ذيالمقدّمة، ومع عدمه لا مجال له، كما أنّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه بالأقلّلم يكن واجبا بالوجوب النفسي، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّفعلى تنجّز التكليف على أيّ تقدير، فلو كان لزومه كذلك موجبا لعدم تنجّزالتكليف إلاّ على تقدير تعلّقه بالأقلّ يلزم الخلف.
وأمّا استلزام وجوده للعدم فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدمتنجّز التكليف على كلّ حال، وهو يستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقا، وهويستلزم عدم الانحلال، فلزم من وجود الانحلال عدمه، وما يلزم من وجودهعدمه فهو محال.
هذا، ويمكن هنا تقريب ثالث يضاف إلى التقريبين المذكورين في كلامالمحقّق الخراساني رحمهالله وهو: أنّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيثكان معلولاً له ومسبّبا عنه لايعقل أن يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي، وهليمكن أن يؤثّر المعلول في عدم علّته؟
- (1) كفاية الاُصول 2: 228.
(صفحه424)
والمقام من هذا القبيل؛ فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إمّا لنفسه أولغيره إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، كما هو واضح، نظيرما إذا تردّد أمر الوضوء ـ مثلاً ـ بين كون وجوبه نفسيّا أو غيريّا ناشئا منالوجوب المتعلّق بما يكون الوضوء مقدّمة له، ولكن كان وجوب ذي المقدّمةمشكوكا، فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أيّتقدير موجبا لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو بوجوب ميكون هو مقدّمة له؛ لأنّ مع الانحلال وإجراء البراءة بالنسبة إلى وجوب ذيالمقدّمة لايكون العلم التفصيلي باقيا على حاله، فالعلم التفصيلي المسبّب عنالعلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله.
هذا، ولكنّ هذه التقريبات الثلاثة إنّما تتمّ بناءً على مبنى فاسد، وهو القولبكون الأجزاء في المركّبات واجبة بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجيّة،ونحن وإن أنكرنا وجوب المقدّمة والملازمة بينها وبين وجوب ذيها رأسا ـ كممرّ تحقيقه في مبحث مقدّمة الواجب من مباحث الألفاظ ـ إلاّ أنّه لو سلّمنذلك في المقدّمات الخارجيّة فلا نسلّمه في المقدّمات الداخليّة أصلاً، بل قدعرفت أنّ الأجزاء واجبة بعين وجوب الكلّ، والأمر المتعلّق به يدعو إليهبعين دعوته إليه؛ إذ لا مغايرة بينها وبينه أصلاً؛ لأنّ المركّب ليس أمرا وراءها،بل هو نفسها، وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسي تفصيلاً، ولا يكونهذا العلم التفصيلي مسبّبا عن العلم الإجمالي، فلا مانع من التأثير في الانحلال،بل قد عرفت أنّه ليس هنا إلاّ علم تفصيلى وشكّ بدوي، كما لا يخفى.
الإشكال السابع: ما أورده نفس الشيخ المحقّق الأنصاري في الرسائل(1)بقوله: «إن قلت»، وتقريره: أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّة تابعة للمصالح
- (1) فرائد الاُصول 2: 461.
(صفحه 425)
والمفاسد النفس الأمريّة، كما اشتهر ذلك بين العدليّة، حيث يقولون: إنّالواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة، فاللطفوالمصلحة النفس الأمريّة إمّا هو المأمور به حقيقة، والأوامر المتعلّقة بمثلالصلاة والصوم ونظائرهما أوامر إرشاديّة والغرض منها الإرشاد إلى عدمحصول المأمور به حقيقة إلاّ بمثلها، وإمّا أنّه غرض للآمر، وعلى كلا التقديرينفيجب تحصيل العلم بحصول اللطف لعدم العلم بإتيان المأمور به على الأوّل،وبحصول الغرض على الثاني مع الاقتصار على الأقلّ في مقام الامتثال، ومنالواضح عند العقول لزوم العلم باتيان المأمور به وبحصول الغرض، أمّا الأوّلفبديهي، وأمّا الثاني فلأنّ الغرض إنّما هو العلّة والداعي للأمر، ومع الشكّ فيحصوله يشكّ في سقوط الأمر، فمرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الإتيان بالمأموربه المسقط للأمر، وقد عرفت أنّ لزوم العلم بإتيانه من الواضحات عندالعقول.
هذا، ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله اعتمد في الكفاية(1) على هذا الكلاموردّ ما أجاب به عنه الشيخ في الرسائل.
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إنّ هذه المسألة ـ وهي أنّالأوامر والنواهي الشرعيّة هل هي تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة أملا؟ ـ مسألة كلاميّة، ومنشأ البحث فيها مسألة كلاميّة اُخرى أيضا، وهي: أنّههل يمتنع على اللّه الإرادة الجزافيّة، فلا يجوز عليه الفعل من دون غرض ـ كمعليه العدليّة ـ ، أو أنّه لايمتنع عليه تعالى ذلك، بل يجوز منه الإرادة الجزافيّةوالفعل من دون غرض ومصلحة، كما عليه الأشاعرة؟
فظهر أنّه بناءً على مذهب العدليّة لابدّ من الالتزام بعدم كون الأفعال
- (1) كفاية الاُصول 2: 233.
(صفحه426)
الاختياريّة الصادرة عن اللّه تعالى خالية من الغرض والمصلحة، أمّا أنه لابدّمن أن يكون المأمور به حقيقة هو نفس تلك المصلحة والغرض، أو يكونالغرض أمرا آخر مترتّبا على المأمور به، فلا يستفاد من ذلك، بل اللازم هوأن يقال بعدم كون إرادته تعالى المتعلّقة بإتيان المأمور به إرادة جزافيّة غيرناشئة من المصلحة في المراد. وهو كما يتحقّق بأحد الأمرين المذكورين كذلكيتحقّق بأن يكون المأمور به الذي هو عبارة عن مثل الصلاة والصوم والحجّبنفسه مصلحة ومحبوبا؛ لأنّه لا فرق في عدم كون الإرادة جزافيّة بين أنتكون الصلاة مؤثّرة في حصول غرض ومصلحة، وهي «معراج المؤمن»كما قيل، أو أن تكون بنفسها محبوبة ومصلحة؛ لاشتمالها على التهليل والتكبيروالتسبيح مثلاً، كما أنّه يتحقّق ذلك بالطريق الرابع، وهو كون المصلحة في نفسالأمر لا في المأمور به.
وبالجملة، فمقتضى مذهب العدليّة أنّه لابدّ أن يكون في البين غرض وغايةومصلحة ولطف، أمّا لزوم أن يكون هو متعلّق الأمر بحيث كانت الأوامرالمتعلّقة بمثل الصلاة والصوم إرشادا إليه أو أن يكون أمرا آخر وراء المأمور بهفلا، فمن المحتمل أن يكون نفس المأمور به محبوبا بذاته وغاية بنفسه، أو يكونالغرض في نفس الأمر، وعلى هذين التقديرين لاوجه للاحتياط بإتيانالأكثر.
أما على التقدير الأوّل فلأنّ محبوبيّة الأقلّ معلومة، ولم يقم دليل علىمحبوبيّة الخصوصيّة الزائدة، والعقل يحكم بعدم جواز العقوبة عليها مع عدمقيام الحجّة عليها، كما أنّه على التقدير الثاني حصل الغرض بمجرّد الأمروالبعث، ولا يكون المكلّف مأخوذا بأزيد ممّا قام الدليل على لزوم الإتيان به.
هذا كلّه، مضافا إلى أنّه لو فرض كون الغرض مترتّبا على المأمور به نمنع
(صفحه 427)
لزوم العلم بحصوله؛ لأنّ المكلّف إنّما هو مأخوذ بالمقدار الذي ورد البيان منقبل المولى على دخالته في المأمور به، ومع الإتيان به لا معنى لعقوبته وإن كانشاكّا في حصول الغرض؛ لأنّ الأمر لم يتعلّق بتحصيل الغرض، بل تعلّقبالأجزاء التي يعلم بانحلال المركّب إليها، وتعلّقه بالزائد مشكوك يحكم العقلبالبراءة عنه، كيف؟ ولو كان اللازم العلم بحصول الغرض لم يحصل العلمبامتثال كثير من المركّبات الشرعيّة؛ إذ ما من مركّب إلاّ ونحتمل دخالة أمرآخر فيه شطراً أو شرطاً واقعا وإن لم يصل إلينا دليله، كما هو واضح، فاللازمبحسب نظر العقل هو العلم بإتيان المأمور به الذي قامت الحجّة عليه، وهويحصل بإتيان الأقلّ فثبتت محبوبيّة تسعة أجزاء ـ مثلاً ـ ويحكم العقل بإتيانها،وأمّا الجزء العاشر فلم تثبت محبوبيّته ولم يصدر من المولى دليل على أنّهمحبوب، فتجرى البراءة العقليّة عنه.
الإشكال الثامن: وهو يختصّ بالواجبات التعبديّة ولا يجرى فيالتوصّليّات، وهو أنّه لابدّ فيها من قصد التقرّب، وهو لايكون إلاّ بالواجبالنفسي؛ لأنّ الواجب الغيري لايكون مقرّبا، وحينئذ فمع الاقتصار على الأقلّلايكاد يمكن قصد التقرّب؛ لأنّه يحتمل أن يكون الواجب في الواقع هو الأكثروكان الأقلّ واجبا غيريّا، وهذا بخلاف ما إذا أتى بالأكثر، فإنّه يقطع بكونهمقرّبا إمّا بنفسه، وإمّا بالأقلّ المتحقّق في ضمنه.
والتحقيق في الجواب أن يقال: أمّا أوّلاً فلا نّ المعتبر في العبادات أنلايكون الإتيان بها بداع نفساني، بل بداع إلهي اُخروي، ومن المعلوم أنّهلافرق في ذلك بين الإتيان بالاقلّ أو بالأكثر؛ ضرورة أنّ الآتي بالأقلّلايكون الداعي له إلى الإتيان به إلاّ أمر إلهي. نعم، لايعلم بكون المأتي به، هوالمأمور به كما أنّ الآتي بالأكثر أيضا لايعلم بذلك.