(صفحه 401)
في البين إلاّ أصالة الحلّيّة في الملاقي، وهي واقعة في رتبة ثالثة، ولا وجهلسقطوها، لسلامتها عن المعارض، والمفروض أنّه لايكون أصل حاكم عليها؛لأنّ الأصل الحاكم غيرجارٍ لأجل المعارضة.
وحينئذ فلا يجب الاجتناب عن الملاقي بالنسبة إلى الأكل ونظائره، وليكون محكوما بالطهارة شرعا، فلا يجوز التوضّي به.
هذا، ويمكن الجواب عن الشبهة ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا ـ بأنّ أصالةالحلّيّة في مطلق الشبهات ممّا لم يدلّ عليها دليل؛ لأنّ ما يتوهّم أن يكونمستندا لها هي رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة(1)، وقد عرفت الإشكال فيهبحيث لايجوز الاعتماد عليها، وأمّا مثل قوله: «كلّ شيء فيه حلال وحرام» إلىآخره، كما في صحيحة عبداللّه بن سنان(2)، فقد ظهر لك أنّ ذلك يختصّبالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، ومقتضى عمومها وإن كان الشمول للشبهةالمحصورة أيضا إلاّ أنّ الدليل العقلي أو العقلائي قد خصّصه، فانحصر موردهبالشبهة الغير المحصورة.
وأمّا التمسّك في نفي الحرمة المجهولة بأدلّة البراءة فهو وإن كان صحيحا، إلأنّك عرفت عدم شمول أدلّة البراءة لأطراف العلم الإجمالي. وبالجملة، فليسهنا ما يحكم بالحلّيّة وعدم الحرمة أصلاً.
وكيف كان، فلو سلّم ذلك فيمكن الجواب بما عرفت من أنّ الأصلالجاري في السبب إنّما يكون حاكما على الأصل الجاري في المسبّب إذا كانالمسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة على السبب، والمقام لايكون كذلك، فإنّحلّيّة كلّ واحد من الأطراف لاتكون من الآثار الشرعيّة لطهارته؛ لأنّه لميدلّ
- (1) وسائل الشيعة 17: 89 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(صفحه402)
دليل على أنّ كلّ طاهر حلال، بل الحلّيّة الواقعيّة إنّما يكون موضوعها الأشياءالتي هي حلال بعناوينها الواقعيّة، كما هو واضح.
كما أنّك عرفت أنّ طهارة الملاقي أيضا لاتكون من الآثار الشرعيّة المترتّبةعلى طهارة الملاقى، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة طرفي العلم الإجمالي الحادثأوّلاً، المؤثّر في التنجيز، والحكم بعدم جريان الاُصول في طرفيه؛ للزوم المخالفةالعمليّة.
وأمّا ما هو خارج عنهما ـ كالملاقى ـ فلا مانع من جريان أصالتي الطهارةوالحلّيّة فيه أصلاً، وحينئذ فيصير مقتضى الأصل الشرعي موافقا لحكم العقلالحاكم بالتفصيل بين الصور الثلاثة المتقدّمة في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله ،فتأمّل جيّدا.
هذا كلّه بناء على ما هو مقتضى التحقيق.
وأمّا بناء على مسلك القوم من اعتبار أصالة الحلّيّة في مطلق الشبهاتوترتّب الحلّيّة على الطهارة، وكذا ترتّب طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ على طهارةالملاقى ـ بالفتح ـ وكون الشكّ في الأوّل مسبّبا عن الشكّفي الثاني بحيث لم يكنمجال لجريان الأصل فيه بعد جريانه في السبب، فلابدّ من التفصيل بين الصورالثلاثة من حيث ورود الشبهة وعدمه.
فنقول في توضيح ذلك: إنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليإنّما هو فيما إذا لزم من جريانها مخالفة عمليّة للتكليف المنجّز، وأمّا إذا لميلزممن ذلك مخالفة عمليّة أصلاً، أو لزم ولكن لم يكن مخالفة عمليّة للتكليفالمنجّز، فلا مانع من جريان الاُصول؛ لأنّ التعارض بينهما تعارض عرضيحاصل بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدهما، لا ذاتي ناش عن عدم إمكاناجتماع مؤدّاها؛ ضرورة عدم المنافاة حقيقة بين حلّيّة هذا الإناء وحلّيّة ذاك
(صفحه 403)
الإناء ولو علم إجمالاً بحرمة واحد منهما، كما لا يخفى.
وحينئذ فلو علم إجمالاً بنجاسة هذا الإناء أو ذاك الإناء، ثمّ علم إجمالبنجاسة الإناء الثاني أو الإناء الثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الحادثثانيا لا يعقل أن يكون منجّزا بعد اشتراكه مع العلم الإجمالي الأوّل في بعضالأطراف، وحينئذ فلا مانع من جريان أصالة الطهارة في طرفي العلم الثاني؛لأنّه وإن لم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة للمعلوم الإجمالي، إلاّ أنّ المحذور فيالمخالفة العمليّة للتكليف المنجّز، لا في مطلق المخالفة العمليّة، والمفروض أنّالعلم الثاني لميؤثّر في التنجيز أصلاً.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ في الصورة الاُولى من الصور الثلاثة المفروضة فيكلام المحقّق الخراساني رحمهالله لابدّ من الالتزام بجريان أصالتي الطهارة والحلّيّة معفي الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ طهارته وإن كانت مترتّبة على طهارة الملاقىـ بالفتح ـ وواقعة في عرض أصالتي الحلّيّة الجاريتين في الملاقى والطرف، إلاّ أنّالملاقى خارج من طرفي العلم الإجمالي الأوّل، والعلم الإجمالي الثاني لايكونمؤثّرا في التنجيز حتّى يلزم من جريان الأصل فيه أيضا مخالفة عمليّةللتكليف المنجّز، كما هو واضح.
وأما الصورة الثالثة فالظاهر ورود الشبهة فيها بناء على مبنى القوم، وهيعبارة عمّا إذا كان الملاقي والملاقى معا طرفا للعلم الإجمالي، وبيان ورودالشبهة: أنّ أصالتي الطهارة في الملاقى والطرف ساقطتان بالتعارض، وفي الرتبةالثانية تسقط أصالتي الحلّيّة فيهما بضميمة أصالة الطهارة في الملاقي، وفي الرتبةالثالثة نرى أصالة الحلّيّة في الملاقى بلا معارض؛ لعدم وجود الطرف لها، ولعدموجود الأصل الحاكم عليها، فيمكن الاستفادة منه في مقام الأكل والشرب لفي مقام التوضّي؛ لعدم الطهارة المحرزة.
(صفحه404)
ولا بدّ لتكميل البحث من بيان الصورة الرابعة المذكورة في كلام صاحبالكفاية رحمهالله وهي: أنّه إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي، ولكن كانالملاقى ـ بالفتح ـ خارجا عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه، وصار مبتلى بهبعده، وقال صاحب الكفاية رحمهالله بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقى؛ لفقدان شرطالتأثير في التنجيز حين حدوث العلم، فلزوم الاجتناب منحصر في الملاقيوالطرف، وهكذا فيما إذا علم أوّلاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف، ثمّحصل العلم بالملاقاة وبنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف.
وقد تقدّمت متابعتنا له رحمهالله في المورد الثاني، وأمّا المورد الأوّل فالظاهر فيهوجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ أيضا؛ لعدم اشتراط تأثير العلمالإجمالي في تنجيز التكليف بكون أطرافه موردا للابتلاء على ما هو التحقيق؛لأنّ ذلك مبني على انحلال الخطابات إلى الخطابات الشخصيّة، وهو ممنوععندنا.
وأمّا بناءً على مسلك المتأخّرين من اشتراط تأثير العلم الإجمالي بعدمخروج شيء من أطرافه عن محلّ الابتلاء، فالظاهر عدم جريان الأصل فيالملاقى هنا وإن كان خارجا عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ الخروج عنه إنّما يمنع منالعدم لو لميكن للخارج أثر مبتلى به، وإلاّ فمع وجود أثر له مورد للابتلاء،وهنا يكون للملاقى ـ بالفتح ـ الخارج عن مورد الابتلاء أثر مبتلى به وهونجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ لو كان نجسا، كما لا يخفى.
إلى هنا تمّ الكلام في مسألة الملاقي والملاقى ومسألة الدوران بين المتباينينفي باب الاشتغال.
(صفحه 405)