(صفحه 379)
المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لأنّ الشيء الذي فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل هوعبارة عن المختلط بهما مثل مجموع الإنائين أو المايعين، والشبهة البدويّةلاتكون كذلك.
وحينئذ فبعد إخراج الشبهة المحصورة ـ لحكم العقلاء باستلزام الإذن فيالارتكاب فيها للإذن في المعصية، وهو مضافا إلى قبحه غيرمعقول كمعرفت ـ تبقى الشبهة الغير المحصورة باقية تحتها.
هذا، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الشمول للشبهة البدويّة فكونها نصّا فيهوظاهرة في الشبهة الغير المحصورة محلّ نظر، بل منع، كما لا يخفى، فالاستدلالبها صحيح.
ويدلّ على ما ذكرنا أيضا ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبيالجارود، قال: سألت أباجعفر عليهالسلام عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأى أنه يجعلفيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما فيالأرض؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه، إنّيلأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللّه، ما أظنّ كلّهم يسمّون،هذه البربر وهذه السودان»(1).
فإنّه لو أغمض النظر عن المناقشة في السند وكذا في المضمون من جهةصدورها تقيّة ـ لما عرفت سابقا من عدم حرمة الجبن الذي علم تفصيلبوضع الأنفحة من الميتة فيه عند علمائنا الإماميّة قدسسرهم ، خلافا للعامة، والروايةمقرّرة لهذا الحكم ـ تكون دلالتها على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغيرالمحصورة واضحة.
وما ادّعاه الشيخ رحمهالله في الرسائل من أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في
- (1) الوسائل 25: 119، الباب 61 من أبواب أطعمة المباحة، الحديث 5.
(صفحه380)
مكان واحد لايوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، ولا كلام فيذلك، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلكالمكان، فلا دخل له بالمدّعى(1).
فيه نظر واضح؛ لأنّ الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن في مكان معالعلم بعدم كونه من الأمكنة التي توضع فيه الميتة في الجبن ممّا لاينبغي أنيصدر من الإمام عليهالسلام ولا أن يقع موردا للشكّ، كما هو واضح.
بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال كون الجبن موضوعا فيه الميتة وأنّه منالجبن المنقولة من الأمكنة التي توضع فيها الميتة في الجبن لايوجب الاجتنابعن كلّ جبن، وهذا هو المطلوب في باب الشبهة الغير المحصورة، كما أنّقوله عليهالسلام : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ظاهر في أنّ العلم بعدم تسمية جماعة حينالذبح ـ كالبربر والسودان ـ لايوجب الاجتناب عن جميع اللحوم.
ودعوى أنّ المراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّيّة، بل يكفي أخذهمن سوق المسليمن ـ كما في الرسائل(2) ـ غريبة جدّا ومخالفة لظاهر صدرالرواية؛ لعدم ارتباط استناد الحلّيّة إلى سوق المسلمين بالمقام، فمقتضى حفظالتناسب والارتباط أنّه لا موضوعيّة للسوق في الرواية، بل معناه حكايةالإمام عليهالسلام ما يعمل به بالمباشرة، فالذيل مؤيّد للصدر في عدم وجوبالاجتناب عن الشبهات الغير المحصورة.
ومنها: ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله في كتاب الدرر، وتوضيحه: أنّ تنجّزالتكليف عند العقلاء عبارة عن كونه بحيث يصحّ للمولى الاحتجاج على العبدوالمؤاخذة على مخالفته، وهذا المعنى غير متحقّق في الشبهة الغير المحصورة؛ لأنّ
- (1) فرائد الاُصول 2: 433.
(صفحه 381)
احتمال الحرام قد بلغ من الضعف إلى حدّ لايكون موردا لاعتناء العقلاءواعتمادهم عليه، بل ربّما يعدّون من رتّب الأثر على هذا النحو من الاحتمالسفيها خارجا عن الطريقة العقلائية.
ألاترى أنّ من كان له ولد في بلد عظيم كثير الأهل، فسمع وقوع حادثة فيذلك البلد منتهية إلى قتل واحد من أهله، لو رتّب الأثر على مجرّد احتمال كونالمقتول هو ولده فأقام التعزية والتضرّع يعدّ مذموما عند العقلاء، موردلطعنهم، بل لو كان مثل هذا الاحتمال سببا لترتيب الأثر عليه لانسدّ بابالمعيشة وسائر الأعمال، كما هو واضح.
وبالجملة، فالتكليف وإن كان معلوما لدلالة الإطلاق عليه أو نهوضأمارة شرعيّة على ثبوته، إلاّ أنّ في كلّ واحدمن الأطراف أمارة عقلائيّة علىعدم كونه هو المحرّم الواقعي؛ لأنّ احتماله مستهلك في ضمن الاحتمالات الكثيرةعلى حسب كثرة الأطراف، ومع بلوغه إلى هذا الحدّ يكون عند العقلاء بحيثلايكون قابلاً للاعتناء أصلاً، وحينئذ فيجوز ارتكاب جميع الأطراف معوجود هذه الأمارة العقلائيّة بالنسبة إلى الجميع.
هذا، ولكنّ المحقّق المزبور بعد توجيهه جواز الارتكاب بما يرجع إلىذلك قال: ولكن فيما ذكرنا أيضا تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّواحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدمخروجه عنها؟ وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلبالكلّي؟(1). إنتهى.
ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهة إنّما تتمّ لو كان متعلّق الاطمئنان متّحدا معمتعلّق العلم، ولكنه ليس كذلك؛ لأنّ المعلوم ومتعلّق العلم هو وجود الحرام
(صفحه382)
بين هذه الأطراف بصورة الموجبة الجزئيّة، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج كلّواحد منها بالقياس إلى غيرها، ولا يجتمع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّوالاطمئنان بالسالبة الكلّيّة في مورد، فحصل الاختلاف بين المتعلّقين.
والشاهد على ذلك ما يتحقّق في الشبهة المحصورة أيضا من اجتماع العلمبوجود الحرام بين الإنائين مع الشكّ في كلّ واحد منهما أنّه هو المحرّم، أوالاطمئنان بعدم كونه محرّما؛ لأنّ ما تعلّق به العلم هو وجود الخمر بينهما، ومتعلّق به الاطمئنان أو الشكّ هو عدم كون هذا الفرد خمرا، وعدم كون ذاكالفرد خمرا، وعدم كون ذلك الفرد خمرا، والتنافي ثابت بين العلم بالموجبةالجزئيّة والاطمئنان في السلب الكلّي، لا في المقام كما ذكرنا.
ويمكن إبداء شبهة اُخرى، وهي أنّ الأمارة مطلقا ـ عقليّة كانت أو شرعيّةإنّما تكون معتبرة مع عدم العلم بكونها مخالفة للواقع، سواء كان العلم تفصيليّأو إجماليّا، وفي المقام نعلم إجمالاً بأنّ واحدا من هذه الأمارات العقليّة المتكثّرةالقائمة على خروج كلّ واحد من الأطراف بالقياس إلى غيرها مخالف للواقعقطعا؛ للعلم الإجمالي بوجود الحرام بينها.
ولكن يدفع الشبهة: أنّه كما كانت الأمارة قائمة على عدم كون كلّ واحد منالأطراف بالقياس إلى غيره هو المحرّم الواقعي، كذلك هنا أمارة عقلائيّة علىعدم كون كلّ أمارة بالقياس إلى غيرها هي الأمارة المخالفة للواقع؛ لأنّ الشبهةفيه أيضا غيرمحصورة، فتأمّل.
ضابطة الشبهة الغير المحصورة
وقع البحث والاختلاف في ضابطة الشبهة الغير المحصورة حسب اختلافالأدلّة التي استدلّ بها لعدم وجوب الاحتياط فيها، وقد ذكرنا دليلاً بعنوان
(صفحه 383)
الإجماع، ودليلاً بعنوان الروايات، ودليلاً عن المحقّق الحائري رحمهالله ولا يكونالمدار في جميعها عنوان الشبهة الغير المحصورة، بل يختلف العنوان المأخوذ فيكلّ دليل حسب الأدلّة؛ إذ لا يكون في الروايات ـ مثلاً ـ من عنوان الشبهةالغير المحصورة أثر ولا خبر؛ لكونها في الحقيقة من الاصطلاحات الفقهيّة لالروائيّة، فلابدّ من ملاحظة كلّ عنوان مأخوذ في أدلّة عدم وجوبالاحتياط، فلو تمسّك فيها بالإجماع فالواجب الرجوع فيها إلى العرف فيتعيين مفهومها.
وقد اختلفت كلمات الأعاظم في تحديد المعنى العرفي، فقال جمع منهم: إنّهعبارة عمّا يعسر عدّه، وقال بعض منهم: إنّه عبارة عمّا يعسر عدّه في زمانقصير، وأحال تعيين مراتبه أيضا إلى العرف، وحكي عن بعض آخر منهماُمور اُخر.
ولكن حيث إنّ الإجماع ممّا لايجوز التمسّك به؛ لاختلاف العلل الموجبةللحكم بعدم وجوب الاحتياط، فلا يكشف عن رأي المعصوم عليهالسلام ،ولكنّه علىتقدير ثبوته لايقتضي إلاّ عدم وجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّه القدر المتيقّن منه،وأمّا جواز المخالفة القطعيّة بارتكاب الجميع فلا يستفاد منه بعد عدم تيقّنكونه معقد الإجماع، مع أنّه يحتمل قويّا أن يكون المستند للقول بعدم وجوبالاحتياط هو وجوه اُخر، كالروايات الكثيرة الموجودة في المقام، فلا يكونالإجماع دليلاً مستقلاًّ في قبال النصوص.
وأمّا لو استند في الحكم إلى الروايات المتقدّمة ونظائرها فليس هنا عنوانالشبهة الغير المحصورة حتّى ينازع في تعيين معناها وبيان مفهومها؛ لأنّهلاتدلّ إلاّ على حلّيّة الشيء المختلط من الحلال والحرام، وهي وإن كانتمخصّصة بالنسبة إلى الشبهة المحصورة، إلاّ أنّ عنوان المخصّص ليس أيضا هو