(صفحه 89)
لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر. نعم، يحصل له العلم بالمخالفة بعدارتكاب جميع الأطراف، ولكنّه لا يوجب حكم العقل بالقبح واستحقاقالعقاب.
وجوابه: أنّ هذا الكلام باطلٌ عند العقل والعقلاء؛ إذ لا فرق بين علمالإنسان حين العمل بمبغوضيّته للمولى وبعد ارتكابه، وتردّد المكلّف به بينشيئين أو أشياء لا يكون عذراً للمخالفة، ولا فرق في حكم العقل بالقبح بينما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله وبين ما إذا عرفه إجمالاً بينشخصين أو أشخاص فقتلهم جميعاً، وعدم العلم بوجوده تفصيلاً لا يعدّ عذرله، كما أنّ ترك صلاة الظهر والجمعة في يوم الجمعة معتذراً بعدم العلم التفصيليبالتكليف ليس بجائز بلا إشكال.
القول الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية قدسسره (1) من أنّ العلم الإجمالي ليسكالشكّ البدوي، بل له تأثيرٌ في تنجّز التكليف، ولكن تأثيره في ذلك بنحوالاقتضاء بالنسبة إلى كلّ من وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة،وليس تأثيره في ذلك بنحو العلّيّة، وذلك لأنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظةمع العلم الإجمالي؛ لعدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف، فيمكن ثبوتاً ورودالترخيص في موارد العلم الإجمالي وعدمه.
القول الثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (2) من التفصيل فيمنجّزية العلم الإجمالي بلحاظ الاقتضاء والعلّيّة، فإنّه منجّز للتكليف بنحوالاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة، وبنحو العلّية التامّة بالنسبة إلىحرمة المخالفة القطعيّة.
(صفحه90)
القول الرابع: ما اختاره المشهور من أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلىكلّ منهما، فلا يمكن ورود الترخيص ثبوتاً، ومعه فلا تصل النوبة إلى البحثالإثباتي.
وهذا هو الحقّ بعد تحقّق القطع الوجداني والبديهي بالتكليف اللزوميالذي لا يحتمل الخلاف فيه، وبعد إيصاله إلى المرحلة الفعليّة ـ أي تعلّقالإرادة الجدّية للمولى بإتيانه في الخارج ـ فلا يمكن الترخيص في بعضالأطراف فضلاً عن جميعها، فيكون هذا العلم علّة تامة لوجوب الموافقةالقطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.
وأمّا الترديد في المكلّف به فلا يوجب جواز ترك التكليف المعلوم عندالعقل والعقلاء، بل العقل يحكم بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي؛ للخروجعن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال، فلا فرق بين العلم التفصيلي والإجماليمن حيث المنجّزيّة والمعذّريّة، إلاّ أنّ الموافقة والمخالفة في العلم التفصيلي تتحقّقبفعل عمل واحد أو تركه، وفي العلم الإجمالي تتحقّق بإتيان جميع الأطراف أوتركه، وهذا لا يوجب الفرق في أصل المنجّزيّة والمعذّريّة.
وعلى هذا لا يمكن للشارع جعل الحكم المخالف في موارد العلم الإجماليكالعلم التفصيلي حتّى تترتّب عليه المخالفة الاحتماليّة فضلاً عن المخالفة القطعيّة،فثبوت الحكم بالعلم الإجمالي مانع من جريان الأصل العملي في مورده،ومراجعة الوجدان والعقلاء أقوى شاهد على ذلك.
إن قلت: قد مرّ أنّ عالم تعلّق الأحكام هو عالم العناوين، فلا مانع من كونالصلاة في الدار المغصوبة مأموراً بها ومنهيّاً عنها معاً عند أكثر المحقّقين،بلحاظ تعلّق الأمر بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب، والحكم المترتّب علىعنوان لا يتعدّى إلى العنوان الآخر حتّى يصير الموضوع واحداً، كما لا يسري
(صفحه 91)
الحكم من عنوانه إلى مصاديقه الخارجيّة، فيمكن أن يقال: كما أنّ النسبة بينالصلاة والغصب هي العموم من وجه، فكذلك النسبة بين عنواني المحرمالواقعي والمشتبه بما هو مشتبه عموم من وجه، ومادّة اجتماعهما المشتبهالخمريّة الذي كان بحسب الواقع خمراً واجتمع فيه حكمان فعليّان، فبما أنّه خمرٌيجب الاجتناب عنه وبما أنّه مشتبه الخمريّة لا يجب الاجتناب عنه، وعليهفيمكن ورود الترخيص من الشارع في موارد العلم الإجمالي، ولا مانع منجريان الأصل في جميع أطرافه.
قلنا: إنّ قياس المقام بباب اجتماع الأمر والنهي قياس مع الفارق، فإنّالوجوب والحرمة في الباب المذكور يتعلّق كلّ منهما بعنوان مستقلّ عن عنوانالآخر، بلا نظارة لأحدهما إلى الآخر، ومعلوم أنّ قول الشارع: «أقم الصلاة»لا يكون ناظراً إلى قوله: «لا تغصب» ولذا لا يستلزم تصادقهما في الخارجلاجتماع الأمر والنهي على شيء واحد.
وأمّا الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي فلا محالة يكون إلىالحكم بحرمة الخمر، ومعناه رفع اليد عن الحكم بالحرمة في بعض المواردومحدوديّته بما إذا كان الخمر معلوماً بالتفصيل، ومعلوم أنّ الترخيص في فرضتنجّز الحكم بالعلم محالٌ، فإنّ توجّه التكليف الفعلي المعلوم بالإجمال إلىالمكلّف لا يكون قابلاً للجمع مع جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي.
والفرق الواضح بين ما نحن فيه ومسألة اجتماع الأمر والنهي: أنّ الحكمالمتعلّق بالصلاة والحكم المتعلّق بالغصب حكمان واقعيّان، بخلاف المقام فإنّالحكم المتعلّق بعنوان المشتبه هو الحكم الظاهري، ومن البديهي أنّ الأحكامالظاهريّة متأخّرة رتبةً عن الأحكام الواقعيّة؛ إذ المفروض في موردها الشكّفي الحكم الواقعي، ومع عدم تنجّز الحكم الواقعي لمكان الشكّ فيه يأتي دور
(صفحه92)
الحكم الظاهري، وأمّا مع فرض تنجّز الحكم الواقعي في حقّ المكلّف لمكانالقطع به كما هو مفروض البحث، فلا تصل النوبة إلى الحكم الظاهري.
وأمّا المقام الثاني ـ أي كفاية الاحتياط والامتثال الإجمالي وعدمه في مقامالامتثال ـ فيقع البحث فيه تارةً في التوصّليّات، واُخرى في المعاملات، وثالثةفي العبادات.
أمّا التوصّليّات فلا شكّ في كفاية الامتثال الإجمالي فيها؛ لأنّ الغرض فيهمجرّد حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق، وبإتيان جميع المحتملات يتحقّقالمأمور به لا محالة، فإذا علم أحدٌ بأنّه مديون بدرهم إمّا لزيد وإمّا لعمرووأعطى لكلّ واحد منهما درهماً يحصل له العلم بالفراغ، وهكذا لو غسلالمتنجّس بمائعين طاهرين يعلم إجمالاً بكون أحدهما ماءً مطلقاً والآخرمضافاً فلاشكّ في حصول الطهارة له، سواء كان المكلّف متمكِّناً من الامتثالالتفصيلي أم لا، وسواء كان الاحتياط مستلزماً للتكرار أم لا.
وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ فلا شكّ في جواز الاحتياط وكفاية الامتثالالإجمالي فيها أيضاً، فإذا احتاط المكلّف وجمع بين إنشاءات متعدّدة يعلمإجمالاً بصحّة أحدها ـ مثلاً ـ يكفي في حصول المنشأ لا محالة وإن لم يتميّزالسبب المؤثّر عنده بعينه، فإذا شكّ في أنّ الطلاق هل يحصل بالجملة الفعليّة:«طلّقتك» أو أنّه لابدّ في حصوله من الجملة الاسميّة «أنتِ طالق»؟ فلا مانعحينئذٍ من الاحتياط والجمع بين الصيغتين.
وحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره المنع عن ذلك بدعوى أنّالاحتياط في العقود والإيقاعات يستلزم الإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاء،ومن الواضح أنّ الترديد ينافي الجزم، ومن هنا قام الإجماع على عدم صحّةالتعليق في الإنشاءات.
(صفحه 93)
وجوابه: أنّ الجزم المعتبر في المعاملات هو جزم المنشئ بتحقّق المعاملة فيمقابل تعليق المعاملة على شيء لم يعلم حصوله، والترديد فيما نحن فيه يكونفي السبب والطريق، فيجمع بينها للاطمئنان بحصول المسبّب، وأمّا المنشِئ فهوجازم بالإنشاء وتعلّق إرادته الجدّيّة بتحقّق المسبّب عقيب الإنشاء والسبب،وهذا المعنى لا ينافي الترديد في السبب، فإنّه أمر آخر غير راجع إلى التعليق فيالإنشاء.
وأمّا العبادات فيقع البحث فيها في صور أربع؛ لأنّ الاحتياط فيها قديستلزم التكرار وقد لا يستلزم ذلك، وعلى كلا التقديرين قد يتمكّن المكلّفمن الامتثال التفصيلي،وقد لا يتمكّن من ذلك.
أمّا في صورتي عدم إمكان الامتثال التفصيلي فلا شبهة في كفاية الامتثالالإجمالي وجواز الاحتياط بحكم العقل؛ لأنّه غاية ما يتمكّن منه المكلّف فيمقام امتثال أمر المولى، ولا طريق له سوى ذلك؛ إذ المفروض عدم التمكّن منالامتثال التفصيلي؛ لانسداد طريق العلم الوجداني والحجّة الشرعيّة، فيكفيالامتثال الإجمالي هنا، سواء كان مستلزماً للتكرار أم لا.
وأمّا الصورة الثالثة ـ أي كون الاحتياط غير مستلزم للتكرار، مع التمكّنمن الامتثال التفصيلي ـ فالحقّ فيها أيضاً كفاية الاحتياط، وليلاحظ زيادةالبحث والاستدلال لذلك في الصورة الرابعة.
وأمّا الصورة الرابعة فما يمكن الاستدلال به للمنع من الاحتياط فيها اُمور:
الأوّل: الشهرة، فإنّ ظاهر ما نسب إلى المشهور هو بطلان عبادة تاركطريقي الاجتهاد والتقليد، فلا يصحّ الامتثال الإجمالي.
وجوابه ـ بعد عدم ثبوتها وعدم اعتبارها ـ : أنّ على فرض تحقّقها تكون فيمقابل من يعمل عملاً باحتمال كونه مأموراً به، لا في مقابل الاحتياط الذي