(صفحه 371)
الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه.
وهذا المقدار يكفي حجّة عليه، نظير ما إذا شك في قدرته على إتيان المأموربه وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا،وهل له أن لايقدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الفعلي الناشيء من الشكّفي قدرته؟ والحاصل: أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أومبغوضه لايري عذرا للعبد في ترك الامتثال»(1). إنتهى.
وجوابه: ـ بعد عدم صحّة تشبيه ما نحن فيه بالشبهة الموضوعيّة، أي الشكّفي القدرة العقليّة ـ أنّ طريق استكشاف غرض المولى عبارة عن تحقّقالتكليف والعلم به، والتكليف مشروط بالقدرة العاديّة، والشكّ في كون بعضالأطراف موردا للابتلاء وعدمه يرجع إلى الشكّ في التكليف الفعلي، فكيفيمكن إحراز غرض المولى، فلا يكون العلم بالغرض مع الشكّ في توجّهالتكليف الفعلي قابلاً للاجتماع، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بهذا الدليل.
ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله استدلالاً مختصرا، وهو قوله: «وأمّلو شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات»(2).
وكان للمحقّق النائيني رحمهالله في مقام توضيح كلام الشيخ بيان مفصّل، ونذكرههنا ملخّصا: لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة الخمر ـ مثلاً ـ وشمولهلصورتي الابتلاء وعدمه، والقدر الثابت من التقييد عقلاً هو ما إذا كان الخمرخارجا عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف، فإذشكّ في استهجان النهي وعدمه لأجل الشكّ في إمكان الابتلاء وعدمهفالمرجع هو الإطلاق؛ لأنّ التخصيص بالمجمل مفهوما المردّد بين الأقلّ
- (2) فرائد الاُصول 2: 516.
(صفحه372)
والأكثر لايمنع من التمسّك بالعام فيما عدا القدر المتيقّن، بل الجواز في المقام أولىمن غيره؛ لأنّ المقيّد فيما نحن فيه هو حكم العقل، وفي المقيّدات اللبيّة يجوزالتمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة فضلاً عن الشبهات المفهوميّة إذا كانالترديد بين الأقلّ والأكثر، كما في المقام.
وبالجملة، لاينبغي التأمّل في جواز التمسّك بإطلاق أدلّة المحرّمات الواردةفي الكتاب والسنّة.
فان قلت: المخصّص المجمل المتّصل بالعام يسري إجماله إلى العام، ولا ينعقدله ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصّص عليه إذا كان المخصّصلفظيّا أو عقليّا ضروريا، سواء كان إجماله لأجل تردّده بين المتباينين أو بينالأقلّ والأكثر، والتفصيل بينهما إنّما هو في المخصّص اللفظي المنفصل أو مبحكمه من العقل النظري، وأمّا العقل الضروري فحكمه حكم المتّصل؛ لأنّالمخصّص إذا كان ضروريّا فبمجرّد صدور العامّ، من المتكلّم ينتقل الذهن إليهويكون كالقرينة المحتفّة بالكلام يسري إجماله إليه، وهذا بخلاف العقل النظري،فإنّه لاينتقل الذهن إليه إلاّ بعد الالتفات إلى المبادئ التي أوجبت حكم العقل،وقد لاتكون المبادئ حاضرة، فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعامّ ولا يسريإجماله إليه، ومن المعلوم أنّ المخصّص في المقام إنّما يكون من الأحكام العقليّةالضروريّة؛ لأنّ ضرورة العقل قاضية باستهجان النهي عمّا لايمكن الابتلاء به،كما لا يخفى.
قلت: أوّلاً: يمكننا منع كون المخصّص في المقام من الضروريّات العقليّةالمرتكزة في أذهان العرف والعقلاء.
وثانيا: أنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلىالعامّ إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيّا غير مختلف المراتب،
(صفحه 373)
وتردّد مفهومه بين الأقلّ والأكثر، كما لو تردّد مفهوم «الفاسق» الخارج عنعموم «أكرم العلماء» بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منهومن مرتكب الصغيرة، وأمّا إذا كان الخارج عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلمبخروج بعض مراتبه عن العامّ وشكّ في خروج بعض آخر فإجماله لايسريإلى العامّ؛ لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع إلى الشكّ في ورود مخصّص آخر للعامّغير ما علم التخصيص به، فتأمّل(1).
وحاصل مايستفاد من ذيل كلامه: أنّه كما أنّ في المخصّصات اللفظيّة قديكون المخصّص متّصلاً وقد يكون منفصلاً، كذلك في المخصّصات العقليّة قديكون المخصّص متّصلاً وهو ما كان عقليّا ضروريّا، وقد يكون منفصلاً وهوما كان عقليّا نظريّا، فإن كان عقليّا ضروريّا يلتفت الإنسان لا محالة مناستماع العامّ إلى المخصّص بدون الاحتياج إلى التأمّل والتوجّه إلى المبادئ، وإنكان عقليّا نظريّا لابدّ بعد استماع العامّ من تحقّق المقدّمات حتّى ينتقل إلىالمخصّص، كأنّه يحتاج إلى الزمان، فحكمه حكم المخصّص المنفصل من حيثانعقاد الظهور للعامّ في العموم من حين صدوره.
وتقدّم الدليل المخصّص عليه يكون من باب أقوائيّة الحجّيّة، لا من بابكشفه عدم انعقاد الظهور للعامّ من الابتداء، وهذا المعنى يتحقّق في المخصّصالعقلي النظري.
يرد عليه أوّلاً: أنّ الفرق بين العقل الضروري والنظري محلّ منع، بل الظاهرعدم الفرق بينهما من حيث كونهما كالمخصّص المتّصل؛ لأنّ العقل النظري وإنكان لاينتقل الذهن إليه إلاّ بعد الالتفات إلى المبادئ الموجبة لذلك، إلاّ أنّه بعدالانتقال يعلم بعدم كون الظهور المنعقد للعامّ قبل الالتفات إلى تلك المبادئ
- (1) فوائد الاُصول 4: 57 ـ 60.
(صفحه374)
ظهورا حقيقيّا، وأنّه أخطأ في توهّمه انعقاد الظهور للعامّ؛ لأنّه بعد الانتقاليعلم بكون دائرة العامّ من أوّل صدوره من المولى كانت أضيق ممّا يتوهّمهسابقا.
وهذا بخلاف المخصّص اللفظي المنفصل، فإنّ العامّ كان منعقدا ظهوره فيالعموم بصورة القانون الكلّي للرجوع إليه في موارد الشكّ، ثمّ تخصيصه علىطبق المصالح بصورة التبصرة، كما ذكرنا مرارا.
وأمّا في المقام فبعد استكشاف حكم العقل يعلم بعدم انعقاد ظهور له فيالعموم أصلاً كالعقل الضروري، وتوهّم الانعقاد لايوجب التفكيك، فالتقسيمالمتحقّق في المخصّصات اللفظيّة لايتحقّق في المخصّصات العقليّة، فكما يسريالإجمال إلى العامّ في العقل الضروري يسري إليه في العقل النظري، فلا يصحّالتمسّك به في كلتا الصورتين، فتدبّر.
وثانياً: أنّ ما أفاده من الجواب الثاني عن الإشكال الذي أورده على نفسهيرد عليه ـ مضافا إلى عدم الفرق بين مثال الفاسق وبين المقام؛ لأنّ الفاسقأيضا ذو مراتب، للفرق بين الفسق الناشيء من النظر إلى الأجنبيّة مثلاً وبينالفسق الناشيء من قتل النفس المحترمة عمدا، كما هو واضح، فحينئذ لو ثبتأنّ عنوان الفاسق يصدق أيضا على مرتكب الصغيرة تكون هذه المرتبة منالفسق من المراتب النازلة لعنوان الفسق ـ أنّ الفرق بين ما إذا كان عنوانالمخصّص عنوانا واقعيّا غيرمختلف المراتب، وما إذا كان عنوانا ذا مراتبمختلفة في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني، ممّا لايكون له وجه؛لأنّ المخصّص ـ ولو كان عنوانا ذا مراتب ـ إذا كان متّصلاً بالعام ـ سواء كانلفظيّا أو عقليّا ضروريّا ـ يسري إجماله إلى العامّ لا محالة، ويمنع عن انعقادظهور للعامّ في العموم.
(صفحه 375)
وليس هنا حجّة على العموم حتّى يتمسّك بها في المقدار الذي لايكونالمخصّص حجّة بالنسبة إليه، فاتّصال المخصّص بالعامّ مانع عن كون ظهورهمتّبعا وقابلاً للاحتجاج؛ لأنّ الكلام مادام المتكلّم مشتغلاً به لاينعقد له ظهورمتّبع حتّى إذا فرغ المتكلّم منه، فحينئذ لافرق من هذه الحيثيّة بين كونالمخصّص ذا مراتب وغيره، فما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله بعنوان توضيح استدلالالشيخ الأنصاري رحمهالله ليس بتامّ.
ثمّ أورد المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية على هذا الوجه الذي أفاده الشيخوتابعه المحقّق النائيني رحمهالله بما لفظه: «ومنه قد انقدح أنّ الملاك في الابتلاءالمصحّح لفعليّة الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً، هو ما إذا صحّانقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال.ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة؛ لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاقالخطاب؛ ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلاّ فيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعدالفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته، فتأمّل».
وقال في هامشها: «نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييدبالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف ـ كان الإطلاق وعدم بيانالتقييد دالاًّ على فعليّته، ووجود الابتلاء المصحّح لهما، كما لا يخفى»(1).
وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمهالله بما ملخّصه: أنّ إطلاق الكاشف بنفسهيكشف عن إمكان إطلاق النفس الأمري، ولو كان التمسّك بالمطلقاتمشروطا بإحراز إمكان الإطلاق لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات بالكلّيّة، إذ ممن مورد يشكّ في التقييد إلاّ ويرجع إلى الشكّ في إمكان الإطلاق، خصوصعلى مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة؛ لأنّ
- (1) كفاية الاُصول 2: 223.