(صفحه 25)
إليه وهو قد خالفها، فيتحقّق العصيان.
وأمّا في مورد الأمارات، مثل: قيام الاستصحاب على وجوب صلاةالجمعة وعدم إتيان المكلّف بما يكون واجباً بمقتضى الاستصحاب، فلا يصدقهنا عنوان التجرّي؛ إذ المقصود من الشكّ في «لا تنقض اليقين بالشكّ» هوالشكّ الفعلي الاستقراري، لا الشكّ المستمرّ إلى الأبد، فلابدّ من الالتزام بجعلالحكم المماثل والظاهري في مورد جريان الاستصحاب، ومعلوم أنّ مخالفةالحكم الظاهري اللزومي معصية، بلا فرق بين مخالفته للواقع ومطابقته.
وهذا بخلاف قاعدة الطهارة والحلّية لجعلهما تسهيلاً وامتناناً على العباد فيمشكوك الطهارة والحلّية، وليس لهما لزوم الموافقة والمخالفة.
الأمر الثالث: أنّ القطع قد يكون طريقيّاً وقد يكون موضوعيّاً، والقطعالطريقي ما لم يؤخذ في لسان الدليل وموضوع الحكم، كما إذا قال الشارع:«لاتشرب الخمر» وحصل القطع للمكلّف بخمريّة مائع في الخارج، والقطعالموضوعي: ما اُخذ في موضوع الحكم ولسان الدليل بعنوان تمام الموضوع أوجزء الموضوع، كقوله: «لاتشرب مقطوع الخمريّة»، مثلاً: إذا شربه القاطع، ليقال له: إنّه متجرّي، بل يقال له: إنّه عاصٍ؛ لتحقّق موضوع حكم الشارع وإنلم يكن بحسب الواقع خمراً.
إذا عرفت هذا فيقع البحث في التجرّي ـ بمعنى نيّة المعصية وارتكاب ما لتكون معصية واقعاً ـ مرّة في ترتّب استحقاق العقوبة عليه وعدمه، واُخرى فيحرمته وعدمها، وثالثةً في قبحه وعدمه، ولا إشكال في كون البحث علىالأوّل كلاميّاً، كما لا إشكال في كونه بحثاً فقهيّاً على الثاني، وأمّا على الثالثفجعل عنوان البحث: أنّ التجرّي هل يكون قبيحاً أم لا؟ فهل ينطبق عليهعنوان المسألة الاُصوليّة أم لا؟ لقائل أن يقول باُصوليّته؛ إذ البحث إن انتهى
(صفحه26)
إلى قبح التجرّي فيمكن بضميمة قاعدة الملازمة ـ أي كلّ ما حكم العقلبقبحه حكم الشرع بحرمته ـ إليه استنباط الحكم الفقهي، وهو أنّ التجرّي منالمحرّمات في الشريعة، ومعلوم أنّ هذا ضابطة لاُصوليّة المسألة.
وجوابه: أوّلاً: أنّ ملاك الاُصوليّة أن تقع نتيجة البحث في كبرىالقياس، كقولنا: «صلاة الجمعة ما دلّ خبر الواحد المعتبر على وجوبه»،و«كلّ ما دلّ الخبر على وجوبه فهو واجب»، فصلاة الجمعة بما أنّها دلّ الخبرعلى وجوبها تكون واجبة، بخلاف ما نحن فيه، فإنّا نقول: «التجرّي قبيحعقلاً»، و«كلّ ما حكم العقل بقبحه فهو حرام شرعاً»، فالتجرّي حرام شرعاً،وأنتترى وقوع مسألة الملازمة في كبرى القياس ووقوع مسألة التجرّي فيصغرى القياس.
وثانياً: أنّ جريان قاعدة الملازمة محدودٌ بالنسبة إلى الحُسن والقُبحالواقعين في رتبة متقدّمة على الحكم الشرعي وسلسلة علله، نظير حكم العقلبقبح الظلم، واستكشاف حرمته شرعاً من قاعدة الملازمة، وإذا كان حكمالعقل في رتبة متأخّرة عن حكم الشرع فلا مجال لقاعدة الملازمة، نظير حكمالعقل بقبح المعصية، فإنّه متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر مثلاً،وهكذا التجرّي متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر والقطع بخمريّةمائع وشربه بنيّة المعصيّة، فصدق التجرّي متوقّف على ذلك، ولذا لا محلّلجريان قاعدة الملازمة هنا، فلا يمكن أن يكون التجرّي بهذه الكيفيّة منمسائل علم الاُصول.
ولكنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) ذكر طريقاً آخر لجعل المسألة اُصوليّة، وهو أنّالإطلاقات والعمومات نظير «لا تشرب الخمر» ـ مثلاً ـ هل يشمل مقطوع
- (1) فوائد الاُصول 3: 37 ـ 39.
(صفحه 27)
الخمريّة وإن لم يكن بحسب الواقع خمراً أم لا؟ وعلى كلا التقديرين يستنبطالحكم الفقهي الفرعي.
واُشكل عليه بأنّ بحث الشمول وعدمه لا يكون بحثاً اُصوليّاً؛ إذ البحثالاُصولي فيها هو البحث عن حجّيّة العام والإطلاق وقابليّتهما للتمسّك، وأمّالبحث عن تحقّق الإطلاق أو العموم لدليل وعدمه فلا يرتبط بالاُصول؛ إذالبحث بهذه الكيفيّة يكون بحثاً فقهيّاً، كما نبحث في كتاب المكاسب بأنّإطلاق: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» هل يشمل بيع المعاطاة أم لا؟
وجوابه: أوّلاً: أنّه لا فرق بين ما نحن فيه وبحث الخطابات الشفاهيّة منحيث اختصاصها بالموجودين الحاضرين في زمان الخطاب أو الأعمّ منهوالغائبين بل المعدومين، مع أنّه لا شكّ في اُصوليّة هذه المسألة، وهكذا البحثفي أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاُصول أم لا؟ وإن كان لهعنوان القاعدة الفقهيّة.
وثانياً: أنّ البحث هنا كلّي لا يختصّ بخطاب معيّن، وذكر «لا تشربالخمر» يكون بعنوان المثال، فإنّا نقول: إنّ متعلّق الأدلّة الواردة في بابالمحرّمات مثل: «لا تشرب الخمر» و«لا تغصب» و... هل يختصّ بالعناوينالواقعيّة أو أعمّ منها ومن مقطوع الخمريّة ومقطوع الغصبيّة وإن لم يكن خمروغصباً بحسب الواقع؟ وهذه ليست بمسألة فقهيّة، بل تكون مسألة اُصوليّة أوقاعدة فقهيّة. هذا تقريب كلام المحقّق النائيني قدسسره .
وأمّا التجرّي ـ سواء كان له عنوان اُصولي أو غيره ـ فيقع البحث فيه منجهتين:
الجهة الأولى: في أنّه قبيح عقلاً أم لا؟ ولا خلاف في أنّ العقل كما يحكمبقبح المعصية كذلك يحكم بقبحه، إنّما الكلام في أنّه صفة الفاعل أو الفعل،
(صفحه28)
ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري(1) والمحقّق النائيني(2) أنّه صفة الفاعل؛إذ المتحقّق في الخارج هو شرب الماء، واعتقاد كونه خمراً لا يوجب اتّصافهبالقبح؛ لعدم تغيير الواقع عمّا هو عليه بالاعتقاد، إلاّ أنّ إبراز نيّة المعصيةيكون بواسطة الفعل، فالفاعل متّصف بالقبح.
والمحقّق العراقي قدسسره (3) قائل بالقبح الفعلي؛ إذ القبيح في الواقع هو هتك حرمةالمولى عملاً، والطغيان الخارجي عليه بعد النيّة واعتقاد كونه معصية، ومحصّلالطغيان ومحقّقه هو الفعل، فلا محالة يكون الفعل متّصفاً به.
وجوابه: أنّ بعد الاعتراف بأنّ المتحقّق في الخارج هو شرب الماء وأنّالاعتقاد لا يوجب تغيير الواقعيّة، كيف يمكن أن يكون الفعل موصوفالقبح؟!
ولكن لا يبعد أن يكون النزاع لفظيّاً، بلحاظ أنّ العمل مبرزٌ لقصد المعصية،والإبراز معتبر في صدق عنوان التجرّي، ويمكن أن يكون صفة للفعل،وبلحاظ كشفه عن سوء سريرة المكلّف وجرأته في مقابل المولى، ويمكن أنيكون صفة الفاعل.
الجهة الثانية: في أنّ التجرّي حرام شرعاً أم لا؟ فإنّ الدليل الأوّل علىحرمته ادّعاء الإجماع، والقول بأنّه وإن لم ينعقد على حرمة عنوان التجرّيولكن انعقد في موارد لا ينطبق عليها سوى هذا العنوان، منها: في من ظنّضيق الوقت وأخّر الصلاة، ثمّ تبيّن الخلاف وسعة الوقت، حيث ادّعى الإجماععلى عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب، وذلك لا يكون إلاّ بناءً علىحرمة التجرّي.
- (3) نهاية الأفكار 3: 30 ـ 31.
(صفحه 29)
ومنها: في من سلك طريقاً مظنون الضرر حيث ادّعي الإجماع أيضاً علىعصيانه ووجوب الإتمام عليه؛ لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدمالضرر، وهذا لا يتمّ أيضاً إلاّ بناءً على حرمة التجرّي.
هذا، ولكن يرد عليه: أوّلاً: أنّ الإجماع في الموردين المذكورين لم يتحقّق،وليس بإجماع محصّل، ولا اعتبار للإجماع المنقول، وعلى فرض كونه محصّليحتمل أن يكون مستند المجمعين عبارة عن الأدلّة الاُخرى، فلا فائدة فيالإجماع على فرض صحّتها، ولا محلّ للفرع على فرض عدم تماميّة الأصل.
وثانياً: أنّ كلاًّ من الموردين اللذين ادّعي عليهما الإجماع خارج عمّا نحنفيه وليس من موارد التجرّي، أمّا في الأوّل فلأنّ ظنّ الضيق يكون تمامالموضوع؛ لوجوب المبادرة بالصلاة شرعاً، فيكون الظنّ هنا موضوعيّاً ـ نظير«لا تشرب مقطوع الخمريّة» ـ لا طريقيّاً، ففي صورة المخالفة يتحقّق العصيان.
وهكذا في الثاني؛ إذ تكون للعلم بالضرر وما يقوم مقامه حتّى الاحتمالالعقلائي موضوعيّة للحكم، فلا محلّ هنا للتجرّي؛ لأنّ نفس الخوف موضوعللحرمة، كما أنّه مجوّز للإفطار في باب الصوم وإن انكشف الخلاف، فلايتمّالإجماع على حرمة التجرّي.
ويمكن أن يقال بحرمة التجرّي من طريق قبحه العقلي وانضمام قاعدة «كلّما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته».
وجوابه: أوّلاً: أنّ قبح التجرّي قبح فاعلي لا قبح فعلي كما ذكرناه.
وثانياً: على فرض كون القبح قبحاً فعليّاً ولكن مورد جريان قاعدةالملازمة المذكورة منحصر فيما كان حكم العقل في سلسلة المبادئ وعلل حكمالشرع، وفي رتبة متقدّمة عليه، وحكم العقل بقبح التجرّي هنا متأخّر عنحكم الشرع بمراتب، مع أنّ أصل قاعدة الملازمة محلّ كلام.