(صفحه 333)
الثاني: في إمكان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي
إنّ تردّد المكلّف به قد يكون مع العلم الجازم بالتكليف الواقعي الفعلي،بحيث تعلّقت الإرادة الحتميّة من المولى بذلك، ففي مثل ذلك لافرق بين الشبهةالمحصورة وغيرها في عدم إمكان الترخيص ولو في بعض الأطراف؛ ضرورةمناقضة الترخيص ولو كذلك مع الإرادة الجدّيّة الواقعيّة، ولا يمكن اجتماعهما،فالمولى إذا أراد حفظ ولده جدّا بحيث لم يرض بقتله أصلاً كيف يمكن لهحينئذ أن يرخّص في قتل فرد مشتبه ولو كانت الشبهة غير محصورة، فضلعمّا إذا كانت الشبهة محصورة، سيّما إذا رخّص في جميع الأطراف؟!
والحاصل: أنّه لا شكّ في أنّ مع العلم بالتكليف الفعلي الواقعي الناشئ عنالإرادة الجدّيّة الحتميّة لايعقل الترخيص من المولى أصلاً، فتحرم مخالفتهالقطعيّة، كما أنّه يجب موافقته القطعيّة. ولا أظنّ أنّ أحدا يخالف في ذلك،ومخالفة العلمين المحقّقين الخوانساري والقمّي رحمهماالله في حرمة المخالفة القطعيّة إنّمهو في غير هذه الصورة؛ إذ وضوح ما ذكرنا بمكان لايظنّ معه أنّ أحدا منالعلماء يتوهّم المخالفة فضلاً عن مثل هذين العظيمين، وإن وقع الخلافوالاشتباه في بعض الكلمات.
وقد يكون تردّد المكلّف به مع العلم القطعي لا بالتكليف الفعلي الواقعي،بل بقيام حجّة معتبرة شرعيّة عليه، كشمول عموم أو إطلاق أو قيام أمارة
(صفحه334)
كخبر الواحد وشهادة العدلين ونحوهما، فهو على قسمين، فإنّه قد يعلم بأنّه معمصادفة الحجّة المعتبرة للواقع يكون الواقع مطلوبا للمولى ومرادا له بحيث لميرفع يده عنه أصلاً، وقد لايعلم ذلك.
ففي القسم الأوّل لامعنى للترخيص؛ لأنّ الترخيص ولو في بعض الأطرافلايجتمع مع إرادة المولى الواقع على تقدير المطابقة، وإرادة المولى وإن لمتكنمعلومة لعدم العلم بالمطابقة ضرورة، إلاّ أنّ احتمال المصادفة مع العلمبالترخيص مرجعه إلى احتمال اجتماع النقيضين وهو ـ كالقطع به ـ مستحيلبداهة؛ إذ لايمكن الجمع بين الترخيص في ترك بعض الأطراف والقول بأنّه لوكانت صلاة الجمعة بحسب الواقع واجبة لميرض المولى بتركها أصلاً، فإنّمعنى الترخيص هو جواز ترك صلاة الجمعة، ففي هذه الصورة أيضا يجبالاحتياط.
وأمّا القسم الثاني الذي مرجعه إلى العلم بقيام الحجّة المعتبرة وعدم العلمبكون الواقع مرادا جدّيّا على تقدير المصادفة، فيحكم العقل أيضا بلزومالمشي على طبق الأمارة ووجوب الاحتياط، ولا فرق في نظره من هذهالحيثيّة بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، فكما أنّ العالم تفصيلاً بحجّة معتبرةشرعيّة لايكون معذورا لو خالفها وصادف الواقع، فكذلك العالم إجمالاً بهلايكون معذورا لو خالفها ولو بإتيان بعض الأطراف، ويجب عليه الاحتياطبإتيان الجميع في الشبهات الوجوبيّة وبتركه في الشبهات التحريميّة.
ولكن مع ذلك يمكن ورود الترخيص فيه من المولى ولا تلزم المناقضةأصلاً، فإنّ مع عدم المصادفة لاتلزم المناقضة؛ لعدم ورود الترخيص علىمورد الحكم الواقعي، ومع المصادفة يكون مرجع الترخيص إلى رفع اليد عنالحكم الواقعي لمصلحة أهمّ من مصلحة درك الواقع، كما هو الشأن في
(صفحه 335)
الشبهات البدويّة، فإنّ الترخيص في مطلقها مع ثبوت الحكم الواقعي في بعضمواردها إنّما هو لأجل أنّه رفع اليد عن الحكم الواقعي لمصلحة أهمّ.
وربّما يقال: إنّ الترخيص والإذن في الارتكاب يكون ترخيصا في المعصيةالتي هي قبيحة عند العقل، وهو لايصدر من الحكيم، مضافا إلى لزومالمناقضة؛ لعدم إمكان اجتماع المعصية مع الترخيص فيها بعد كونها متوقّفة علىتكليف المولى.
وجوابه: أوّلاً: بالنقض في الشبهات البدويّة، بأنّ جريان حديث الرفعوترخيص شرب (التتن) مثلاً، كيف يكون قابلاً للاجتماع مع حرمته بحسبالواقع؟ وبما ذكرت من الجواب هناك نقول به هنا.
وثانيا: بالحلّ بأنّ القبيح والموجب لاستحقاق العقوبة هي مخالفة التكليفالواقعي الذي كان مطلوبا للمولى ولم يرفع يده عنه لمصلحة اُخرى أهمّ، كما فيمثال حفظ الولد، وأمّا مخالفة التكليف الواقعي الذي يكون قد رفع اليد عنهلمصحلة التسهيل على العباد ـ مثلاً ـ ، فلا تكون قبيحة، ولا موجبة لاستحقاقالعقوبة أصلاً، فالترخيص في مخالفة الإمارة التي هي طريق إلى الواقع وجوازعدم المشي على طبقها لمصلحة اُخرى لايكون معصية ولا قبح فيه، ورفعالمناقضة يكون بعدم تنجّز الحكم الواقعي في الشبهة، وكذا في الشبهة المقرونةبالعلم الإجمالي.
والحاصل: أن العقل قبل ورود الترخيص وإن كان يحكم بلزوم العمل علىطبق الحجّة الإجماليّة ووجوب المشي معها بالاحتياط، إلاّ أنّه لا مانع عندهمن ورود الترخيص من المولى ولو في جميع الأطراف.
فلا نقول: بأنّ الأدلّة المرخّصة مقيّدة للإطلاق أو العموم الشاملين لحالالعلم الإجمالي بصورة العلم التفصيلي بالحكم أو الموضوع، وهكذا لانقول
(صفحه336)
بكونها مقيّدة لحجّيّة الأمارة بصورة العلم التفصيلي بقيامها؛ لأنّ لازم ذلكاختصاص الإرادة الجدّيّة ومحدوديّتها بالمقيّد من الابتداء وكون الإطلاق أوالعموم تخيّليّا، بل نقول ببقاء الإطلاق أو العموم أو الأمارة بحاله من حيثالإرادة الجدّيّة، إلاّ أنّ المولى رفع اليد عنها وجعل الترخيص لمصلحة أهمّ.
(صفحه 337)
المخالفة القطعيّة
الروايات الدالّة على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي
إنّما الكلام في صدور الدليل المرخّص من المولى في أطراف العلم الإجماليالمتعارف ـ أي المستند إلى الحجّة والأمارة الشرعيّة ـ ويمكن أن يقال باستفادةالترخيص في الارتكاب وجعل الحلّيّة فيها من أدلّة أصالة الحلّيّة الجارية فيالشبهات التحريميّة.
منها: مرسلة معاوية بن عمّارعن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبيجعفر عليهالسلام فسأله رجل عن الجبن، فقال أبوجعفر عليهالسلام : «إنّه لطعام يعجبني،ساُخبرك عن الجبن وغيره: كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّىتعرف الحرام فتدعه بعينه»(1).
ومنشأ توهّم الحلّيّة والحرمة في الجبن هي الأنفحة التي تكون جزءا منأجزاء الحيوان، وتستفاد في صناعة الجبن، ويمكن أن تؤخذ من الميتة، فلذينقسم الجبن إلى الحلال والحرام، ولكن لا خلاف بين علماء الشيعة في طهارةالجبن المأخوذ من أنفحة الميتة؛ لكونها من الأجزاء المحكومة بالطهارة، فلابدّمن حمل الرواية على التقيّة؛ إذ الجبن عندنا قسم واحد.
- (1) الوسائل 25: 119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.