(صفحه 217)
استعمال فعل الماضي في قوله تعالى «وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ»، إلاّ أنّ سياقه ليس هوالإخبار عن الاُمم السابقة، بل سياقه نفي الشأنيّة، حيث ليس من شأنه تعالىأن يعذّب الناس قبل البيان وإتمام الحجّة، وهذه سنّة اللّه من دون فرق بينالاُمم السابقة واللاّحقة ولا بين الدُّنيا والآخرة.
وثانياً: أنّ الآية الشريفة تناسب إرادة معنى عاماً بلحاظ وقوعها بينالآيات الدالّة على العذاب الاُخروي والدنيوي، فإنّ الآية المتقدّمة عليها قولهتعالى: «وَ كُلَّ إِنسَـنٍ أَلْزَمْنَـهُ طَـآلـءِرَهُو فِى عُنُقِهِى وَ نُخْرِجُ لَهُو يَوْمَ الْقِيَـمَةِ كِتَـبًيَلْقَـلـهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَـبَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»(1).
والآية المتأخّرة عنها قوله تعالى: «وَ إِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَفَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـهَا تَدْمِيرًا»(2)، فتكون الآية الشريفةصالحة للاستدلال بها بلحاظ إرادة المعنى العام منها.
وثالثاً: سلّمنا أنّ المراد من الآية هو الإخبار عن عدم وقوع العذاب علىالاُمم السابقة في الدنيا إلاّ بعد البيان بقرينة التعبير بلفظ الماضي، إلاّ أنّ دلالةالآية على نفي العذاب الاُخروي ـ الذي هو أشدّ بمراتب من العذاب الدنيوي ستكون بطريق أولى، وبالأولويّة التي يستفادها العقل والعرف يتمّ المطلوب.
الوجه الثاني: ما عن المحقّق الخراساني قدسسره (3) من أنّ صحّة التمسّك بالآيةمبنيّة على عدم استحقاق العقاب الذي هو ملاك البراءة، ولكنّها لا تدلّ إلعلى نفي الفعليّة، وعدم الفعليّة أعمّ من أن يكون لأجل عدم الاستحقاق أولأجل عفوه ولطفه تعالى للعباد مع استحقاقهم للعذاب. وعليه فلا يؤمّن فاعلالشبهة من العذاب الاُخروي؛ إذ المفروض أنّ نفي فعليّة العذاب لا ينفي
- (3) كفاية الاُصول 2: 167.
(صفحه218)
استحقاقه.
وفيه: أنّ التعبير باستحقاق العقوبة وعدمه وإن تحقّق في ظاهر الكلماتولكن ليس من شأن الاُصولي أن يكون في مقام إثبات استحقاق العقوبةونفيه، فإنّه مسألة كلاميّة، وإنّما النزاع بيننا وبين الأخباريّين في ثبوت المؤمّنمن العقاب في ارتكاب الشبهة وعدمه، ومعلوم أنّ المؤمّن منه ثابت بالآية قبلبعث الرسول وبيان التكليف، سواء تحقّق الاستحقاق أم لا.
الوجه الثالث: ما عن المحقّق النائيني قدسسره (1) من أنّ مفاد الآية هو الإخبار عننفي التعذيب قبل إتمام الحجّة، كما هو حال الاُمم السابقة، فلا دلالة لها علىحكم مشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبهة، فتكون أجنبيّة عمّا نحن فيه.
وفيه: أنّ بعث الرسول كناية عن إيصال الأحكام وتبليغها للعباد، فيكونمشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبه داخل في مفاد الآية، مع أنّه لا فائدةللاستدلال بالآية في مقابل أدلّة الأخباريّين؛ لحكومتها عليه، فإنّ مفاد الآيةهو نفي العقاب بلا بيان التكليف، ومفاد أدلّة الأخباريّين ـ على فرضتماميّتها ـ أنّ دليل الاحتياط بيان له، فظاهر الآية أنّه ليس من شأن الباريارتكاب ما هو قبيح عقلاً.
الآية الثانية: قوله تعالى: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِى وَ مَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُوفَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَـلـهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءَاتَـلـهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَعُسْرٍ يُسْرًا»(2).
تقريب الاستدلال: أنّ المراد من الموصول هو التكليف، والمراد من الإيتاءهو الإيصال والإعلام؛ لأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه، وإيتاء التكليف ليس إل
- (1) فوائد الاُصول 3: 333 ـ 334.
(صفحه 219)
بإيصاله وإعلامه، فالآية تدلّ على رفع التكليف عند الشكّ وعدم وصولهوإعلامه.
أقول: استقصاء الكلام حول الآية الشريفة يقتضي البحث في جهات ثلاث:
الاُولى: في بيان الاحتمالات الواردة بشأن الموصول.
الثانية: في تعيين الظاهر بين الاحتمالات.
الثالثة: في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل هي بمستوى تعارض أدلّةالاحتياط ـ على تقدير تماميّتها ـ أو بمستوى تكون أدلّة الاحتياط حاكمةعليها.
أمّا الجهة الاُولى: فإنّ الاحتمالات الواردة في الموصول أعني به قوله تعالى«إلاّ ما آتاها» أربعة:
الأوّل: ما ذكر في تقريب الاستدلال بالآية، من أنّ المراد من الموصول هوالتكليف، ومن الإيتاء الوصول والإعلام، فيكون المعنى: لا يكلّف اللّه نفساً إلبتكليف أوصله إلى المكلّف، وفي حال الشكّ لا يكون التكليف واصلاً، فلتكليف، وعلى هذا الاحتمال تكون دلالة الآية على البراءة تامّة.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من الموصول هو المال بقرينة المورد، ومنالإيتاء التمليك، فيكون المعنى حينئذٍ: لا يكلّف اللّه نفساً بمال ـ أي بأداء مال إلاّ بما ملكه، فتكون الآية أجنبيّة عن البراءة.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد من الموصول مطلق فعل الشيء وتركه،ومن الإيتاء الإقدار، فيكون المعنى حينئذٍ: لا يكلّف اللّه نفساً بفعل شيء أوتركه إلاّ إذا أقدرها عليه ومكّنها منه، وعليه فتكون الآية أيضاً أجنبيّة عنالبراءة؛ لأنّ مفادها رفع التكليف عن العاجز ردّاً لمن يرى جواز التكليف بغيرالمقدور.
(صفحه220)
الاحتمال الرابع: أن يكون المراد من الموصول الجامع بين التكليف والمالومطلق فعل الشيء وتركه، والمراد بالإيتاء هو الجامع بين الإيصال والتمليكوالإقدار؛ بأن يكون الإيتاء بمعنى الإعطاء، ولكنّ إعطاء كلّ شيء بحسبه،فإعطاء التكليف إيصاله وإعلامه، وإعطاء المال تمليكه، وإعطاء مطلق فعلالشيء وتركه الإقدار عليه، وحينئذٍ الآية الشريفة بعمومها تشمل ما نحن فيه،وتكون دالّة على البراءة كالاحتمال الأوّل.
ولايخفى أنّ الإشكال في الاحتمالات الثلاثة السابقة من جهة ظهور الآيةومقام الإثبات، مع صحّة جريانها في نفسها ومقام الثبوت، ولكنّ البحث فيالاحتمال الأخير من حيث الإمكان ومقام الثبوت قبل وصول النوبة إلىالاستظهار، فإنّه استشكل عليه بامتناعه ثبوتاً.
توضيح ذلك: أنّ المراد بالموصول إن كان هو المال أو الفعل كان الموصولمفعولاً به لفعل «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ» بينما لو اُريد به التكليف والحكم كان مفعولمطلقاً، ومن الواضح عدم إمكان اجتماع نسبة فعل واحد في استعمال واحد إلىالمفعول به والمفعول المطلق، وذلك للتباين والتنافي بين النسبتين، فإنّ نسبةالفعل إلى المفعول المطلق يحتاج إلى لحاظ كون المفعول من شؤونه وأطوارهعلى نحو لا يكون له وجود قبل وجود الفعل، بل يكون وجوده بعين وجودالفعل مثل: «ضربت ضرباً شديداً»، وهذا بخلاف المفعول به فإنّه لابدّ وأنيكون موجوداً قبل تحقّق الفعل، ليكون الفعل واقعاً عليه، مثل: «ضربتزيداً».
وقد أجاب المحقّق النائيني قدسسره (1) عن الإشكال بأنّ المفعول المطلق النوعيوالعددي يصحّ جعله مفعولاً به بنحو العناية، فإنّ الوجوب والتحريم ـ مثلاً
- (1) فوائد الاُصول 3: 342 ـ 343.
(صفحه 221)
وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقّق في المرتبةالسابقة إلاّ أنّهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصحّ تعلّق التكليفبهما. نعم، هما بالمعنى المصدري لا يصحّ تعلّق التكليف بهما.
وفيه: أنّ لازم ما أفاده قدسسره هو الجمع بين الاعتبارين المتنافيين؛ إذ المفعولالمطلق عبارة عن حاصل المصدر، ولهذا يكون متأخّراً رتبةً عن المصدر، وأمّالمفعول به فهو مقدّم في الاعتبار على المصدر؛ لأنّه إضافة قائمة به، وعليهفكيف يمكن الجمع بين المفعول به والمفعول المطلق في الاعتبار؟! فإنّه يلزم منهاعتبار المتأخّر في الاعتبار متقدّماً في الاعتبار في حال كونه متأخّراً.
وهناك جواب آخر أفاده المحقّق العراقي قدسسره (1)، وهو: أنّ الإشكال إنّما يرد فيفرض إرادة الخصوصيّات المزبورة من شخص الموصول، وإلاّ فبناء علىاستعمال الموصول في معناه الكلّي العام، وإرادة الخصوصيّات من دوال اُخرخارجيّة فلا يتوجّه محذور، لا من طرف الموصول ولا في لفظ الإيتاء، ولا منجهة تعلّق الفعل بالموصول، وذلك أمّا من جهة الموصول فظاهر، فإنّه لميستعمل إلاّ في معناه الكلّي العام، وأنّ إفادة الخصوصيّات إنّما كان بتوسيطدالّ آخر خارجي، وكذلك الحال في لفظ الإيتاء فإنّه أيضاً مستعمل في معناهوهو الإعطاء، غير أنّه تختلف مصاديقه من حيث كونه تارةً هو الإعلام عندإضافته إلى الحكم، واُخرى الملكيّة أو الإقدار عند إضافته إلى المال أو الفعل،وهكذا الأمر في تعلّق الفعل بالموصول حيث لا يكون له إلاّ نحو تعلّق واحدبه، ومجرّد تعدّده بالتحليل إلى نحو التعلّق بالمفعول به، والتعلّق بالمفعول المطلقلا يقتضي تعدّده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول كما هو ظاهره،غاية الأمر أنّه يحتاج إلى تعدّد الدال والمدلول.
- (1) نهاية الأفكار 3: 196.