(صفحه120)
إليه قوله عليهالسلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز «بلى قد ركعت»(1)، فإن كانالمؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه من دون أنيكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.
ويرد عليه: أنّ المنافاة لا ترتفع بهذا الحلّ ـ كما مرّ منّا مراراً ـ فإنّالترخيص في ترك الركوع بمقتضى قوله عليهالسلام : «بلى قد ركعت» مع أنّه لم يركعخارجاً لا يجتمع مع تعلّق الإرادة الجدّية القطعيّة بجزئيّة الركوع للصلاةبصورة الجزئيّة المطلقة، وأنّ تركه نسياناً أيضاً يوجب بطلان الصلاة، ففيالواقع ترك الركوع مستند إلى ترخيص الشارع وحكمه بأنّك قد ركعت،فيعود الإشكال.
وأمّا الاُصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة فقال قدسسره : قدعرفت أنّ الأمر فيها مشكل، فإنّ المجعول فيها ليس الهوهويّة والجري العمليعلى بقاء الواقع، بل مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرفالآخر والبناء على عدمه، بل مع حفظ الشكّ يحكم على أحد طرفيه بالوضعأو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلّية المجعولة في أصالة الحلّتناقض الحلّية والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عن الواقع، بداهة أنّالمنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط أو الرخصة فيه كمهو مفاد أصالة الحل، ينافي الجواز في الأوّل والمنع في الثاني.
ثمّ قال في مقام الجواب عنه: إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاّحقة للحكم الواقعي أوموضوعه كحالة العلم والظنّ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعلحكم يضاد الحكم الواقعي؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
- (1) الوسائل 6: 317، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3.
(صفحه 121)
ثانيهما: اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهومنجّزاً له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعلومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه، كما أنّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عنالواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريّة ومناطات الأحكامالشرعيّة، فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمّمكمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنّه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولىبالرعاية وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريعحكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، حفظاً للحمىوتحرّزاً عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن، وهذا الحكم الظاهري إنّما يكون فيطول الحكم الواقعي، نشأ عن أهمّية المصلحة الواقعيّة... ولا مضادّة بينهما، فإنّالمشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد معالوجوب الواقعي ويكون هو هو، وإن لم يكن المشتبه ممّا يجب حفظه فلا يجبالاحتياط لانتفاء العلّة، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه.
ولايخفى أنّ هذا الذيل من طغيان قلمه قدسسره ولايكاد ينبغي من مثله، فإنّموضوع وجوب الاحتياط هو المشتبه، سواء انكشف الواقع فيما بعد أم لا،وموضوع وجوب الحفظ هي نفس المسلم، وانكشاف الواقع لا يكون كاشفعن عدم تعلّق وجوب الاحتياط على المشتبه من الشارع.
ثمّ قال قدسسره : هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجابالاحتياط، وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة منالأهمّية بحيث يلزم الشارع رعايتها كيفما اتّفق، فللشارع جعل المؤمّن، سواءكان بلسان الرفع كقوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون» أو بلسان الوضع كقوله صلىاللهعليهوآله :«كلّ شيء لك حلال»، فإنّ المراد من الرفع في قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون»
(صفحه122)
ليس رفع التكليف عن موطنه حتّى يلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّيستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون» نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلبيان، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لتنافي الحكم الواقعي ولا تضادّه، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون».
والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخّررتبتها عنه؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجبللحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له، فقد لوحظ في الرخصة وجودالحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي؟!
وبالجملة، الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكونفي عرض المنع والحرمة المستفاد من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أنّ إيجابالاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليه، فما يكون في عرضه يكون فيطول الواقع أيضاً، وإلاّ يكون ما في طول الشيء في عرضه. هذا تمام كلامه قدسسره بتلخيص وإيجاز.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره من الاعتبارين للشكّ في الحكم الواقعي، وأنّباعتبار كونه من الطوارئ والعوارض للحكم الواقعي لا يمكن أخذه موضوعلحكم آخر، وأمّا باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهفيمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمِّماً أو مؤمّناً لكونه بهذا الاعتبار متأخّرعن الحكم الواقعي، فليس بصحيح.
فإنّ الشكّ باعتبار الأوّل أيضاً متأخّر عن الحكم الواقعي، ويشهد لهالتعبير بالعوارض والطوارئ، فإنّ كلّ عارض متأخّر عن المعروض ولو
(صفحه 123)
بتأخّر رتبي، فلا يصحّ التفكيك بين الاعتبارين من هذه الناحية.
وثانياً: أنّه ذكر في ذيل كلامه ما هو مخالف لما حقّق في العلوم العقليّة، وهوأنّ ما مع المتقدّم فيالرتبة لا يكون متقدّماً رتبةً، وما مع المتأخّر في الرتبة ليكون متأخّراً رتبة.
توضيح ذلك: أنّه لابدّ من كون التقدّم والتأخّر الرتبي مستنداً إلى الملاك،ومن هنا كانت العلّة متقدّمة على المعلول رتبة لمكان العلّية، وعليه فلو كان معالعلّة شيء مقارن لا يقتضي الحكم بتقدّمه رتبةً على المعلول لمجرّد المقارنةوالمعيّة مع العلّة، وكذا الحال بالنسبة إلى مقارن المعلول. نعم، إن تحقّق للمعلولعلّتان يصحّ القول بأنّ هذا المعلول متأخّر عن كلتا العلّتين، فالمعيّة لا تقتضيالتقدّم على المعلول.
ولكنّه قدسسره قال: كما أنّ إيجاب الاحتياط في النفس المردّدة بين المسلم والكافرمتأخّر عن الحكم الواقعي في الرتبة، كذلك قاعدة الحلّية متأخّرة عنه فيالرتبة؛ لكونهما في رتبة واحدة، فإذا كان أحدهما متأخّراً عن شيء لابدّ منتأخّر الآخر، فلا يصحّ الحكم بتأخّر الرخصة عن الحكم الواقعي رتبة لمجرّدكونها في عرض إيجاب الاحتياط الذي هو في طول الحكم الواقعي ومتأخّرعنه رتبة.
وثالثاً: سلّمنا أنّه لا منافاة بين إيجاب الاحتياط والحكم الواقعي، بل يكونإيجابه لتحفّظ الحكم الواقعي في مورد الشكّ البدوي كما هو المفروض هنا،ولكنّ الإشكال المهمّ في قاعدة الحلّية والطهارة مع أنّ جعلهما يكون بداعيالتسهيل والفرار عن الحكم الواقعي، فإن تعلّقت إرادة جدّية المولى بحرمةشرب التتن ـ مثلاً ـ كيف يكون هذا قابلاً للجمع مع قوله: كلّ شيء شكّ فيحلّيته وحرمته فهو لك حلال؟! هذا محور الإشكال، وكلامه قدسسره بطوله وتفصيله
(صفحه124)
لا يكون جواباً عنه.
والتحقيق هنا: أنّ حلّ الإشكال يكون برفع يد الشارع عن الحكم الواقعيكرفع يده عن أحد الحكمين في باب التزاحم.
توضيح ذلك: أنّه لابدّ للشارع إمّا من إيجاب الاحتياط في جميع موارداحتمال تحقّق التكليف، وإمّا اعتبار الطرق والأمارات العقلائيّة التي تكون غالبمطابقة للواقع، والأوّل يوجب انزجار الناس عن أساس الدين وينافيالسمحة والسهلة التي يكون تشريع الدِّين على أساسها، ويوجب تعطيل اُمورمعاش الناس؛ لاشتغالهم في أكثر الأوقات بإتيان الواجبات المحتملة والتحرّزعن المحرّمات المحتملة، فيتعيّن الثاني بأنّ مصلحة حفظ أساس الدين تقتضيجعل الشارع قاعدة الطهارة والحلّية في الموارد المشكوكة من باب المسامحةوالسهولة، والمصلحة المذكورة تقتضي رفع اليد عن الحكم الواقعي مع فعليّتهوتحقّق مناطه، وهذه مسألة عقلائيّة.
ومن ذلك ظهر: أوّلاً: أنّه لا محذور في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعيبما ذكرناه.
وثانياً: أنّ التعبّد بالمظنّة لا يستلزم أيّ محذور من المحذورات المذكورة.