(صفحه166)
الواحد أم لا؟
إذا عرفت هذا فنقول: اختلف العلماء في حجّية الخبر الواحد، والمشهورقائل بحجّيته في الجملة، والمحكي عن السيّد(1) والقاضي(2) وابن زهرة(3)والطبرسي(4) وابن إدريس(5) عدم حجّيّته، وقد عرفت أنّ القاعدة الأوّليةحُرمة التعبّد بالمظنّة وعدم حجّيتها إلاّ ما قام الدليل على الحجّية، فلابدّ منكون الدليل القائم على حجّية المظنّة قطعيّاً، أو حجّيته قطعيّة؛ لعدم إمكانتخصيص القاعدة الكلّية بالدليل الظنّي.
أدلّة القائلين بعدم حجيّة الخبر الواحد
واستدلّ المانعون عن الحجّية ـ مع عدم احتياجهم إلى الاستدلال ـ بالأدلّةالأربعة:
أمّا الكتاب فالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، كقوله تعالى: «وَ لاَ تَقْفُمَا لَيْسَ لَكَ بِهِى عِلْمٌ»(6)، وقوله تعالى: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّلاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـءًا»(7)، وغير ذلك من الآيات الدالّة على ذمّ من يعتمدعلى الظنّ، ومعلوم أنّ الخبر الواحد من المصاديق الظاهرة لطبيعة الظنّ،فلا يجوز العمل به.
وجوابه: أوّلاً: أنّ ظاهر الآيات الناهية بقرينة المورد هو اختصاص النهي
- (1) رسائل المرتضى 3: 309.
- (2) حكاه عنه في المعالم: 189.
(3) الغنية 2: 356.
(صفحه 167)
عن اتّباع غير العلم بالاُصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروع الشرعيّة، فإنّ قولهتعالى: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ» ورد عقيب قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَبِالاْءَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَـآلـءِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْءُنثَى * وَ مَا لَهُم بِهِى مِنْ عِلْمٍ»، ولكنّهليس بصحيح؛ إذ يستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي أنّ طبيعة الظنّ بعيدةعن الحقّ ولا تكون طريقاً إليه، فلا أقلّ من عموميّة الآيات وعدماختصاصها بالاُصول الاعتقاديّة، سيّما قوله تعالى: «وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِىعِلْمٌ»(1)، فإنّه ورد في ذيله قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّأُوْلَـآلـءِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـءُولاً»، ولذا نرى في روايةٍ استشهاد الإمام عليهالسلام بهذا الذيلعلى حرمة إطالة الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء(2).
وثانياً: بعد تسليم عمومات الآيات الناهية للفروع لا مانع منه بعد كون مدلّ على حجّية خبر الواحد أخصّ من تلك الآيات، فيخصّص به عمومالآيات، وهكذا بدليل حجّية الشهرة الفتوائيّة على فرض تماميّته.
إن قلت: إنّ لسان تلك الآيات يأبى التخصيص.
قلنا: إنّ دلالة تلك الآيات على مفادها لا تكون قطعيّة؛ لعدم نصّها فيالحرمة، بل لها ظهور فيها، والظاهر يفيد الظنّ لا القطع، ودليل حجّية هذالظنّ ما يدلّ على حجّية ظواهر الكتاب، فلا محالة يكون هذا الدليل مخصّصلتلك الآيات، فنفس الاستدلال بها يكون دليلاً على كونها قابلة للتخصيص،كما هو واضح.
وثالثاً: أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر تقدّم على الآيات الناهية، إمّبنحو التخصّص، وإمّا بنحو الورود، وإمّا بنحو الحكومة على اختلاف فيه،
- (2) تفسير العياشي 2: 292، الحديث 74.
(صفحه168)
فلابدّ من توضيح هذه العناوين من باب المقدّمة، فنقول: إنّ التخصيص هوخروج فرد من الأفراد عن العنوان العام الشامل له بالإرادة الاستعماليّة بدليلآخر، مثل: «لا تكرم زيداً العالم» بالنسبة إلى «أكرم كلّ عالم».
وأمّا التخصّص فهو الإرشاد والانتباه إلى خروج فرد عنه مع كونه غيرشامل له بدليل آخر، مثل: «لا تكرم زيداً» بالنسبة إلى «أكرم كلّ عالم»، فإنّنعلم خارجاً بعدم شمول العامّ له مع قطع النظر عن الدليل الخاصّ؛ لعدماتّصافه بالعلم.
ومن المعلوم أنّ العلم والجهل أمران واقعيّان لا يرتبطان بالحكم والتعبّدالشرعي، بخلاف الورود والحكومة، فإنّهما يشتركان في أنّ عنوان الخروجوالدخول يتحقّق بمساعدة التعبّد والدليل الشرعي، أمّا في باب الورود بعدمجيء الدليل الثاني فلا يبقى موضوع للحكم السابق، مثل: تقدّم الخبر الواحدالدال على وجوب صلاة الجمعة على حديث الرفع الذي موضوعه عدم العلم،ومعناه رفع الحكم الذي لا يدلّ عليه الدليل المعتبر الشرعي، فمع وجوده ليبقى عنوان «ما لا يعلمون».
وأمّا الدليل الحاكم في باب الحكومة فيكون في مقام توضيح الدليل المحكوموتعيين حدوده، مثل حكومة قوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» على قوله عليهالسلام :«إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأكثر»(1)، فيكون الدليل الحاكممفسّراً ومبيّناً للدليل المحكوم، ولا يكون الدليل المحكوم من الابتداء وبالإرادةالاستعماليّة شاملاً لمورد الدليل الحاكم، بل يتخيّل أنّه يشمله، وهذا بخلافالتخصيص الذي يخرج مورده عن تحت العام بالإرادة الجدّية بعد شموله لهبالإرادة الاستعماليّة.
- (1) الوسائل 8: 216، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(صفحه 169)
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا شكّ في تقدّم أدلّة حجّية الخبر الواحد علىالآيات الناهية، إلاّ أنّ الاختلاف في وجه التقدّم.
والتحقيق: أنّ تقدّمها عليها بنحو الورود، وتقريب ذلك: أنّ المراد من كلمةالعلم في الآيات الناهية ـ مثل: قوله تعالى: «وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِىعِلْمٌ»(1) ـ لا يكون القطع واليقين، بل المراد منه الدليل المعتبر القابل للاستناد،نظير قوله تعالى: «هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ»(2)، فالآيات الناهية تمنععن متابعة الدليل غير المعتبر.
ومن المعلوم أنّ بعد إثبات حجّية الخبر الواحد بالأدلّة الآتية يتحقّق الدليلالمعتبر عند الشارع، فلا يبقى موضوع للآيات الناهية فيما يدلّ عليه الخبرالواحد المعتبر، ولذا تكون أدلّة الحجّية واردة عليها.
وإن أبيت عن ذلك وقلت: إنّ المراد من العلم في الآيات الناهية هو القطعواليقين، فنقول: سلّمنا أنّ الخبر الواحد بالنسبة إلى المخبر به ومفاده ظنّي،ولكنّ أدلّة حجّيته قطعيّة لا محالة؛ إذ لابدّ من انتهاء حجّية كلّ ظنّ إلى الدليلالقطعي، كما مرّ، فمع القطع بحجّية الخبر الدال على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً لا يبقى هنا موضوع للآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، ولذا نقول: إنّ الخبرالواحد دليل شرعي وارد عليها.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدسسره (3) أجاب عن الآيات الناهية بأنّ أدلّة حجّية خبرالواحد حاكمة عليها، حيث إنّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعلالخبر محرزاً للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا يمكن أنتعمّه الآيات الناهية عن العمل بالظنّ.
- (3) فوائد الاُصول 3: 161 ـ 162.
(صفحه170)
هذا في غير السيرة العقلائيّة، وأمّا السيرة فيمكن القول بأنّ نسبتها إلىالآيات الناهية نسبة الورود بل التخصّص؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليسمن العمل بالظنّ، وذلك لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعملبخبر الثقة عندهم خارج عن العمل بالظنّ تخصّصاً.
أضف إلى ذلك: أنّ رادعيّة الآيات الناهية عن السيرة يلزم منها الدورالمحال؛ لأنّ الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقّف على أن لا تكون السيرةمخصّصة لعمومها، وعدم كونها مخصّصة لها يتوقّف على أن تكون رادعة عنها.
وإن منعت عن ذلك كلّه فلا أقلّ من أن يكون حال السيرة حال سائرالأدلّة الدالّة على حجّية خبر الواحد من كونها حاكمة على الآيات الناهية،والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعاً عن الحاكم.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ مفاد أدلّة حجّية خبر الواحد هو اتّباع قول الثقةوجعل الحجّية له، وأمّا تنزيل الخبر منزلة العلم في عالم التشريع بإلقاء احتمالالخلاف فيه فلا يستفاد منها بوجه، وقد عرفت سابقاً عدم تماميّة ما يقال منأنّ المجعول في الأمارات هو الكاشفيّة أو تتميم الكشف لتكون الأمارة مصداقادّعائيّاً للعلم.
وثانياً: أنّ نسبة السيرة العقلائيّة إلى الآيات الناهية ليست نسبة الورود أوالتخصّص، وذلك لأنّها فرع كون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملبالعلم، وهو باطل؛ إذ لم يحصل لهم العلم منه، بل جعله العقلاء حجّة للعمل بهفي مصاف القطع؛ إذ لو كان القطع طريقاً منحصراً في اُمور المعاش والحياةالاجتماعيّة يلزم ما لا يكون قابلاً للتحمّل من المشتقّات والمشكلات، وأمّعدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف في خبر الثقة فلا يصحّح الورود أو التخصّص؛إذ الورود والتخصّص يدور مدار الخروج الواقعي الحقيقي لا مدار الخروج