والجواب عن الاستدلال بها: أوّلاً: أنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، فلا تنفعالخصم للاستدلال بها؛ لأنّ المفروض أنّه يقول بعدم حجّية أخبار الآحاد.
وفيه: أوّلاً: أنّ الإجماع المدّعى إمّا محصّل أو منقول، أمّا المحصل فغيرحاصل بعد ادّعاء الإجماع على حجّية الخبر الواحد من تلميذه الشيخالطوسي قدسسره (2) في عصره وزمانه، وعلى فرض تحقّقه فلا يمكن الاستناد إليه؛لاحتمال استناد المجمعين إلى وجوه اُخرى، فيصير الإجماع مدركيّاً ولو احتمالاً.وأمّا الإجماع المنقول فليس بحجّة عند القائلين بحجّية خبر الواحد.
أفراده.
وأمّا العقل فقد مضى بيانه في كلام ابن قبة، وذكرنا الجواب عنه.
أدلّة القائلين بحجّيّة الخبر الواحد
والعمدة هنا أدلّة القائلين بالحجّية فإنّهم أيضاً استدلّوا بالأدلّة الأربعة:
أمّا الكتاب فاستدلّ بآيات منه:
الاُولى: قوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُم بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوآاْ أَنتُصِيبُواْ قَوْمَام بِجَهَــلَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـدِمِينَ»(1).
قال الطبرسي قدسسره في شأن نزولها: «إنّها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبيمعيط، بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً به،وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلىرسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبيّ صلىاللهعليهوآله وهمَّ أن يغزوهم، فنزلت الآية».(2)
والاستدلال بها على حجّية خبر الواحد العادل من وجهين:
الأوّل: الاستدلال بمفهوم الوصف، ببيان أنّه علّق وجوب التبيّن على كونالمخبر متّصفاً بصفة الفسق، فينتفي بانتفائها؛ إذ لو كان التبيّن واجباً على كلالتقديرين ـ أي مجيء الفاسق بالنبأ ومجيء العادل به ـ لكان تعليق الحكم علىوصف الفسق في الجائي بالنبأ لغواً، فتدلّ الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصفعلى عدم وجوب التبيّن على تقدير مجيء العادل بالنبأ، وهذا هو معنى الحجّية.
وفيه: أنّ دلالة الآية على ذلك مبنيّة على ثبوت المفهوم للوصف، وهو غير
(صفحه174)
ثابت؛ إذ لا مفهوم للقضيّة الوصفيّة مطلقاً، سواء كان الوصف معتمداً علىموصوفه ـ كما في: «أكرم الرجل العالم» ـ أم لا ـ كما في الآية الشريفة ـ وذلكلأنّ ثبوت المفهوم لها يتوقّف على دلالة الجملة الوصفيّة المشتملة على الحكموعلى كون الوصف علّة منحصرة بحيث يدور الحكم فيها مدار الوصفوجوداً وعدماً؛ إذ بدون ذلك لا يثبت لها مفهوم، وقد سبق في باب المفاهيم أنّهلا دلالة لها على كون الوصف علّة منحصرة للحكم، لا بالوضع ولا بالتبادر.
إن قلت: إنّ الأصل في القيود كونها احترازيّة لا توضيحيّة ولا الغالبيّة،فيكون قيد الفاسق في الآية الشريفة للاحتراز عن غير الفاسق.
قلنا: إن كان معنى الاحترازيّة ثبوت المفهوم للجملة الوصفيّة فهو أوّلالكلام، ونحن ننكره، وإن كان معناها مدخليّة القيد في ثبوت الحكم فهوصحيح ولكنّه لا يستلزم كون القيد علّة منحصرة للحكم؛ إذ يمكن مدخليةشيء آخر أيضاً في الحكم، وبدون إثبات العلّية المنحصرة لا يثبت المفهوم.
الوجه الثاني: الاستدلال بمفهوم الشرط، ببيان أنّه تعالى علّق وجوبالتبيّن على مجيء الفاسق بالنبأ، فينتفي وجوبه عند انتفائه بمجيء العادل بالنبأ.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّه على فرض تحقّق المفهوم للقضيّة الشرطيّة لابدّ منكون الشرط أمراً مغايراً للموضوع، بحيث يمكن أن يتحقّق للموضوع ويمكنأن لا يتحقّق له، وأمّا إذا كان عنوان الشرط متّحداً مع عنوان الموضوع لزائداً عليه وسيق الشرط لبيان الموضوع فلا مفهوم لها.
ومعلوم أنّ القضيّة الشرطيّة في الآية الشريفة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع،نظير قولك: «إن رزقت ولداً فاختنه»، فإنّ الختان عند انتفاء الولد منتفبانتفاء موضوعه، ولا مفهوم له، فكذلك الآية لا مفهوم لها.
توضيح ذلك: أنّ الموضوع في الآية ليس طبيعي النبأ بل الموضوع فيه
(صفحه 175)
خصوص نبأ الفاسق، والشرط هو المجيء، والجزاء هو وجوب التبيّن، بمعنىأنّ نبأ الفاسق إن جاءك يجب التبيّن فيه، فيكون المفهوم حينئذٍ عدم وجوبالتبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ، فحينئذٍ لا موضوع في البين حتّى يجبالتبيّن فيه أو لا يجب، ولابدّ من فرض موضوع محفوظ في كلا جانبي وجودالشرط وعدمه حتّى يثبت المفهوم، وعليه فلا مفهوم للآية لكونها مسوقةلبيان تحقّق الموضوع.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدسسره (1) وحاصل كلامه: أنّ الموضوع في الآيةهو طبيعة النبأ لا نبأ الفاسق، وقد علّق وجوب التبيّن على كون الجائي بهفاسقاً، فإذا انتفى الشرط لا يجب التبيّن في النبأ، فكأنّه قيل: النبأ الذي جاءكمله حالتان: إن كان الذي جاء به فاسقاً يجب التبيّن فيه، وليس بحجّة، وإن كانالذي جاء به غير فاسق بل عادل فلا يجب التبيّن فيه وهو حجّة، فيكون للآيةمفهوم، وليست مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.
وفيه: أنّ ما أفاده قدسسره لا يساعده ظاهر الآية ولا يكون قابلاً للاستظهارمنها، ولايصحّ الاستدلال بكون ذلك معنى الآية احتمالاً، والظاهر منها هو كونالموضوع نبأ الفاسق لا طبيعة النبأ، بل باحتمال كون الموضوع هو نبأ الفاسقلا يصحّ استدلاله قدسسره .
ولكنّ المحقّق النائيني قدسسره (2) ذكر شاهداً في المقام على كون الموضوع في الآيةهو طبيعة النبأ، والشاهد هو مورد نزول الآية، فإنّ موردها هو إخبار الوليدبارتداد بني المصطلق، فقد اجتمع في خبره عنوان كونه من خبر الواحد،وكون المخبر فاسقاً، والآية الشريفة إنّما وردت لإفادة كبرى كلّيّة وإعطاء
- (2) فوائد الاُصول 3: 169.
(صفحه176)
الضابطة لتمييز الأخبار التي يجب التبيّن فيها عن الأخبار التي لايجب التبيّنفيها، وقد علّق وجوب التبيّن فيها على كون المخبر فاسقاً، فيكون الشرطلوجوب التبيّن هو كون المخبر فاسقاً لا كون الخبر واحداً؛ لأنّه لو كان الشرطذلك لعلّق وجوب التبيّن في الآية عليه؛ لأنّه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدمالتعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبيّن فيخبر غير الفاسق.
وفيه: أنّ ظهور الآية في إفادة الكبرى الكلّيّة لتمييز الأخبار التي يجب التبيّنفيها عن الأخبار التي لا يجب فيها التبيّن موقوف على ثبوت المفهوم للآية،وهو أوّل الكلام، مع أنّ سياق بيانه قدسسره أقرب إلى مفهوم الوصف من مفهومالشرط، فكلامه قدسسره هذا ليس إلاّ مصادرة للمطلوب، فإنّ الآية الشريفة علىفرض تحقّق المفهوم للقضيّة الشرطيّة تكون من قبيل: «إن رزقت ولدفاختنه» كما ذكرنا.
ويرد ثانياً على الاستدلال بالآية الشريفة بمفهوم الشرط: أنّ الظاهر فينوع القضايا الشرطيّة أن يكون الارتباط بين الشرط والجزاء بنحو العليّة،ولذا وقع البحث في تداخل الجزاء وعدمه في صورة تعدّد العلّة، كما في قولنا:«إذا بلت فتوضّأ»، و«إذا نمت فتوضّأ».
وأمّا الجزاء في الآية الشريفة بحسب الواقع فلا يكون تبيّناً، فإنّه لايترتّبعلى إخبار الفاسق بعنوان الحكم اللزومي بحيث يعدّ تاركه عاصياً، فلابدّ منتقدير جزاء يترتّب على الشرط المذكور في الآية، وما تقتضيه السنخيّةلإخبار الفاسق أن يكون الجزاء هو عدم العمل وترتيب الأثر بإخباره، فكأنّهقال: إن جاءكم فاسق بنبأ فلا أثر له، ولا يترتّب عليه شيء، فيكون مفهومالآية: إن جاءكم عادل بنبأ فله أثر ويترتّب عليه شيء. ومعلوم أنّ هذا المعنى