(صفحه18)
ولابدّ قبل الخوض في البحث من ملاحظة العناوين المربوطة بالمسألة مثل:عنوان وجوب متابعة القطع، وعنوان حجّيّته بمعنى المنجّزيّة عند إصابة الواقع،والمعذّريّة عند عدم إصابة الواقع، وعنوان طريقيّته وكاشفيّته، من حيثكونهما ذاتيّتين له أو مجعولتين.
والظاهر من وجوب المتابعة في كلام الشيخ قدسسره هو الوجوب واللزومالشرعي، ولابدّ هنا من التأمّل والدقّة، بأنّ القطع من صفات ذات الإضافةوقائم بنفس الإنسان، كما أنّ الشكّ والظنّ يكون كذلك، ومعلوم أنّ مرادالشيخ قدسسره ليس لزوم متابعة القطع من حيث إنّه صفة نفسانيّة وقائم بالنفس، بلمراده أنّ متعلّق القطع لازم المتابعة، فالقاطع بوجوب صلاة الجمعة يلزمهإتيانها في الخارج، كما هو الظاهر من كلامه، وعلى هذا لا يصحّ أن يكون المرادمن لزوم المتابعة اللزوم الشرعي؛ إذ لا يتحقّق هنا حكمان وجوبيّان حتّىيكون أحدهما متعلّقاً بصلاة الجمعة والآخر متعلّقاً بمتابعته ليترتّب على مخالفةالقطع عقابان، فلا محالة يكون اللزوم هنا لزوماً عقليّاً، ولا يرتبط بالشرع.
وأمّا عنوان الحجّيّة فيكون بمعنى المنجّزيّة في صورة مطابقة القطع للواقع،والمعذّريّة في صورة مخالفته له. وقد مرّ عن صاحب الكفاية أنّ للحكم أربعةمراحل: 1ـ الاقتضاء. 2ـ الإنشاء. 3ـ الفعليّة. 4ـ التنجّز. يعني استحقاقالعقوبة على مخالفته، وقلنا: إنّ التنجّز ليس من مراحل الحكم، بل هو منآثاره؛ بأنّ القطع إذا تعلّق بوجوب صلاة الجمعة وكانت في الواقع أيضاً كذلكيحكم العقل بترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته، وهكذا في المعذّريّة. وليخفى أنّ إسناد المنجّزيّة والمعذّريّة إلى القطع لا يخلو عن مسامحة وتجوّز، فإنّبحسب الواقع إيصال التكليف إلى المكلّف وعدم إيصاله إليه يكون منجّزومعذّراً.
(صفحه 19)
وأمّا عنوان كاشفيّة القطع عن الواقع وطريقيّته إليه فهو كما يستفاد منظاهر كلام صاحب الكفاية قدسسره وصريح كلام النائيني قدسسره (1) يكون من لوازم ذاتالقطع كزوجيّة الأربعة، فكما أنّ الزوجيّة تكون من لازم ماهيّة الأربعة كذلكالكاشفيّة والطريقيّة تكون من لازم ماهيّة القطع، ولايمكن الانفكاك بينهما، وليكون ذلك بجعل جاعل؛ لعدم إمكان الجعل التكويني التأليفي حقيقة بينالشيء ولوازمه، فإنّه يتصوّر في المحمولات المفارقة، كالقائم والعادل المحمولينعلى زيد ـ مثلاً ـ وأمّا جعل اللازم فيكون بالعرض والمجاز، وبتبع جعل الشيءالملزوم بسيطاً، أي إيجاده بمفاد «كان» التامّة لا بمفاد «كان» الناقصة.
والتحقيق: أنّ الكاشفيّة والطريقيّة لا تكون لازم ماهيّة القطع، فإنّا نرىالانفكاك بينهما أحياناً، مثل: تعلّق القطع بوجود مّا لا واقعيّة له، فكيف يمكنأن يكون القطع هنا طريقاً إلى الواقع وكاشفاً عنه؟!
وإذا قيل: إنّ كاشفيّة القطع وطريقيّته تكون بحسب اعتقاد القاطع، وهوبنظره لا يرى إلاّ الواقع.
قلنا: إنّ هذا دليل للفرق بين مسألة كاشفيّة القطع ومسألة لازم الماهيّة، فإنّالزوجيّة ـ مثلاً ـ من لازم ماهيّة الأربعة في كلّ وعاء وعند جميع الأنظاروالأشخاص، ولا يتصوّر الانفكاك بينهما، فلا تكون كاشفيّة القطع قابلةللمقايسة معها.
ولكنّك قد لاحظت في المنطق تعريف العلم بأنّه إن كان إذعاناً للنسبةفتصديق، وإلاّ فتصوّر، أي كما أنّ التصديق علم كذلك التصوّر علمٌ، وقدعرفت مراراً أنّ في مورد تحقّق العلم يتحقّق معلومان: أحدهما معلوم بالذاتوهو الصورة الحاصلة عند النفس، والآخر معلوم بالعرض وهو الموجود
(صفحه20)
الخارجي.
ولايتحقّق في العلم والقطع معلوم بالعرض في بعض الموارد بحسب الواقع،كما إذا كان القطع بمجيء زيد من السفر مخالفاً للواقع مع وجود العلم والمعلومبالذات، فإن كانت كاشفيّة القطع وطريقيّته بالنسبة إلى معلوم بالعرض فليصحّ المقايسة بينها وبين لازم الماهيّة؛ لتحقّق الانفكاك بينهما كما عرفت، وإنكانت الكاشفيّة والطريقيّة بالنسبة إلى معلوم بالذات فتصحّ المقايسة بينهما؛ إذلا يمكن الانفكاك بين القطع والمعلوم بالذات.
ويؤيّده ما صرّح به المحقّق النائيني قدسسره بعد المقايسة بينهما بقوله: بل بوجهيصحّ أن يقال: إنّها عين القطع. ويستفاد منه جعله قدسسره ملاك الكاشفيّة عبارةعن المعلوم بالذات.
وما يمكن أن يكون عين القطع هي الصورة الحاضرة عند النفس؛ إذ يصحّأن يقول: بأنّه لا يتحقّق في النفس شيئان: أحدهما القطع والآخر المعلومبالذات، وعلى هذا تكون كاشفيّة القطع كاشفيّة كاملة وطريقيّته طريقيّة تامّة؛لعدم الانفكاك بينهما أصلاً بلا فرق بين صورة الإصابة والخطأ.
وقد عرفت أنّ حجّيّة القطع تكون بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، والجامع بينهمصحّة الاحتجاج به إمّا من العبد في مقابل المولى، وإمّا من المولى في مقابلالعبد. ولا يخفى أنّ الحجّيّة لا ترتبط بماهيّة القطع ومعناه، أي أنّه إدراك لا شكّفيه، لا بوجوده الذهني وتصوّره، بل يرتبط بوجوده الواقعي، أي الصفةالنفسانيّة التي نسمّيها بالقطع وما يكون معروضاً للحجّيّة هو وجوده الواقعيفقط، ولا يكون قابلاً للمقايسة من حيث الرتبة مع الكاشفيّة التي تكون منلوازم ماهيّته.
ومن المعلوم أنّ حجّيّة القطع من الأحكام العقليّة البديهيّة، ولا تحتاج إلى
(صفحه 21)
جعل الشارع، وإلاّ يلزم اللّغوية؛ إذ لا يترتّب عليه أثرٌ بعد حكم العقل بحجّيّتهبالبداهة، ولايمكن جعل الحجّيّة له من الشارع ولو بنحو الإمضاء نظير جعلهلخبر الواحد، فإنّ دأب الشارع لا يكون إمضاء جميع ما يكون معتبراً ورائجبين العقلاء، فإنّا نرى في بعض الموارد تأييده منه، وفي بعض الموارد نفيه كنفيالربا ـ مثلاً ـ بخلاف الأحكام العقليّة البديهيّة؛ إذ لا يمكن للشارع نفيهوإثباتها لاستلزام اللغويّة، والانتهاء إلى تزلزل أساس الاعتقادات، مثل:إثبات الصانع ووحدانيّته، ولزوم إطاعة قوله وأمثال ذلك ممّا يترتّب عليه.
ولذا لا يصحّ القول: بأنّه لا مانع من حكم العقل والشرع معاً بحجّيّة القطع،نظير حكم العقل بقبح الظلم وحكم الشرع بحرمته؛ لأنّ ما حكم به العقل فيباب الظلم غير ما حكم به الشرع، ولاتتحقّق العينيّة بينهما، فإنّ ما حكم بهالعقل ـ أي القبح ـ يكون بمنزلة الملاك والعلّة للحكم الشرعي ـ أي الحرمة وأمّا في باب القطع بعد إدراك العقل صحّة الاحتجاج به بإدراك الضروري فلمجال لحكم الشرع بها.
وذكر صاحب الكفاية قدسسره (1) دليلاً آخر لعدم إمكان نفي حجّيّة القطع منالشارع، وهو أنّه مستلزم لاجتماع الضدّين بحسب اعتقاد القاطع في صورةعدم إصابة القطع للواقع، وبحسب الواقع والاعتقاد في صورة الإصابة.
وهذا مبتنٍ على ما ذكره قدسسره في باب اجتماع الأمر والنهي من تحقّق التضادّ بينالأحكام الخمسة التكليفيّة، وقد ذكرنا تبعاً اُستاذنا السيّد الاُستاذ الإمام قدسسره أنّدائرة التضادّ محدودة بالاُمور الواقعيّة التكوينيّة، مثل: عروض السوادوالبياض على جسم واحد في آنٍ واحد، والأحكام التكليفيّة من الاُمورالاعتباريّة، ولذا قلنا في مفاد هيئة «افعل»: إنّه عبارة عن البعث الاعتباري،
(صفحه22)
وفي مفاد هيئة «لا تفعل» أنّه عبارة عن الزجر الاعتباري في مقابل البعثوالزجر التكويني، وهكذا في سائر الأحكام التكليفيّة، ولا يتحقّق التضادّ فيالاُمور الاعتباريّة، والشاهد على ذلك عدم إمكان اجتماع المتضادّين ـ كالسوادوالبياض ـ في آنٍ واحد ولو من ناحية اثنين.
وأمّا في باب الأوامر والنواهي فيمكن أن تكون طبيعة واحدة بالنسبة إلىمكلّف حراماً وبالنسبة إلى آخر واجبة، فكيف يتحقّق التضادّ بين الأحكام؟!
إن قلت: إن لم يتحقّق التضاد بين الأحكام يصحّ للمولى أن يقول لعبده:«صلِّ في هذه الساعة» و«لا تصلّ فيها»، أي تحريم طبيعة واحدة ووجوبهبالنسبة إلى شخص واحد، مع أنّه مستحيل بالبداهة.
قلنا: إنّ منشأ الاستحالة هنا اجتماع الحبّ والبغض، وهما أمران تكوينيّانومن مبادئ البعث والزجر الاعتباري، فإنّ البعث الاعتباري ناشٍ عن حبّالمولى بتحقّق المأمور به في الخارج، كما أنّ الزجر الاعتباري ناشٍ عن بعضهبتحقّقه فيه، ولا يعقل أن يكون شيء واحد في آنٍ واحد محبوباً ومبغوضاً له.
وأشكل اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) على ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بأنّ هذالاجتماع نظير اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في مورد الشكّ إذا كانمشكوك الطهارة بحسب الواقع نجساً، فإنّه طاهر بمقتضى قاعدة الطهارةونجس بحسب الحكم الأوّلي، فلماذا لا تتحقّق هنا مسألة اجتماع الضدّين؟ ففيمنحن فيه أيضاً يمكن أن تكون المسألة بهذه الكيفيّة، بأن يقول الشارع: «إذقطعت بوجوب صلاة الجمعة لا تكون صلاة الجمعة عليك واجبة» بدونتحقّق التضادّ أصلاً.
نعم، يكون جعل الحكم الظاهري امتناناً وتسهيلاً على المكلّف الشاكّ