(صفحه182)
فعلى هذا نقول: إنّ عدم حجّية خبر العادل في الموضوعات كان بيانه بعدنزول آية النبأ، فاللّوم في الآية إن كان بالنسبة إلى المنطوق تتحقّق المناسبةالعقلائيّة؛ إذ يصحّ التوبيخ على العمل بإخبار الفاسق الذي يجري فيه احتمالتعمّد الكذب بارتداد قبيلة ومخالفتهم مع الأوامر الصادرة عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؛بخلاف المفهوم؛ إذ لا تتحقّق المناسبة العقلائيّة للتوبيخ في العمل بإخبار العادلقبل بيان عدم حجّيته في الموضوعات في عالم التشريع، فما ذكره المحقّقالنائيني قدسسره قابل للتصحيح والالتزام.
ويرد خامساً على الاستدلال بالآية الشريفة: أنّها تبحث عن النبأ لا الخبر،والفرق بينهما في أنّ النبأ هو خصوص الخبر عن أمرٍ عظيم لا عن كلّ شيء،فهو أخصّ من الخبر، فالآية الشريفة بصدد بيان أنّ الأخبار الخطيرة والأنباءالعظيمة يجب في موردها التبيّن التامّ والفحص الكامل، ولا يجوز الإقدام عليهبجهالة، وهذا من غير فرق بين نبأ العادل والفاسق، ومن الواضح أنّ إخبارالوليد بارتداد بني المصطلق كان من الأخبار الخطيرة، كيف لا؟ وأنّ ارتدادهموامتناعهم عن رفع الصدقات كان يستتبع إراقة دمائهم واشتعال نار الحربفيهم.
وفيه: أوّلاً: أنّ الخبر والنبأ مترادفان كما صرّح به علماء اللغة، ولكنّه قديوصف بالعظيم كما في ابتداء سورة النبأ، وقد لا يوصف.
وثانياً: أنّه على فرض أخذ قيد كون المخبر به أمراً خطيراً في معنى النبأ، ليضرّ هذا بما نحن في صدده، وهو إثبات حجّية خبر الواحد في الجملة فيمقابل المنكر المطلق. على أنّ مورد الخبر الواحد أيضاً من الاُمور العظيمةوهو تعيين وظيفة المسلمين في عصر الغيبة.
هذا تمام الكلام في آية النبأ، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بها على
(صفحه 183)
حجّية خبر الواحد.
ثمّ إنّ هناك إشكالات اُخرى تعمّ جميع أدلّة حجّية خبر الواحد من دون أنتختصّ بآية النبأ، فنبحثها هنا تبعاً للأعلام قبل الورود في الآية الثانية،وإن كان المناسب تأخير البحث فيها حتّى الفراغ من جميع أدلّة حجّية خبرالواحد.
الإشكال الأوّل: وقوع التعارض بين أدلّة حجّية خبر الواحد وبين عمومالآيات الناهية عن العمل بالظنّ وما وراء العلم، والمرجع بعد التساقط إلىأصالة حرمة التعبّد بالظنّ.
وفيه: ما عرفته سابقاً من أنّ أدلّة حجّية الخبر واردة على الآيات الناهية،فلا مجال لتوهّم المعارضة.
الإشكال الثاني: أنّه لو كان خبر الواحد حجّة لزم منه عدم حجّيته؛ إذ منجملة الخبر نقل السيّد المرتضى قدسسره الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد.
وجوابه من وجوه:
الأوّل: أنّ خبر السيّد قدسسره مستند إلى الحدس، وأدلّة حجّية خبر الواحدلاتشمل الخبر الحدسي، ولذا قلنا بعدم حجّية الإجماع المنقول.
الثاني: أنّ خبر السيّد قدسسره معارض لخبر الشيخ الطوسي قدسسره فيتساقطانبالمعارضة.
الثالث: أنّ خبر السيّد قدسسره بنفسه خبر واحد، فيلزم من حجّية خبر السيّد قدسسره عدم حجّية خبره، وما يلزم من وجوده عدمه محال، فلا تشمل أدلّة الحجّيةخبر السيّد قدسسره .
الرابع: أنّ شمول أدلّة حجّية الخبر لخبر السيّد قدسسره يستلزم التخصيص إلىالواحد، الذي هو أبشع أنواع تخصيص الأكثر المستهجن؛ إذ الأمر دائر بين
(صفحه184)
إخراج الآلاف من الأخبار الآحاد من تحت أدلّة الحجّية وإبقاء خبر السيّد قدسسره بالخصوص، وبين إخراج خبره قدسسره وإبقاء ما عداه من الأخبار في دائرةالحجّيّة، ومن الواضح أنّ الثاني هو المتعيّن؛ لأنّ الأوّل يستلزم انتهاءالتخصيص إلى الواحد.
وأورد على هذا الوجه المحقّق الخراساني قدسسره (1) بأنّ انتهاء التخصيص إلىالواحد إنّما يتمّ فيما إذا كان خبر السيّد قدسسره شاملاً لجميع أخبار الآحاد، سواءكانت صادرة قبل خبره أو بعد خبره، ولكنّ شموله للأخبار الصادرة قبلهممنوع، وذلك لأنّ أدلّة الحجّية إنّما تشمل خبر السيّد قدسسره من حين تحقّقه لا قبله؛إذ لامعنى لحجّية الشيء قبل وجوده، ومن الواضح أنّ شمول أدلّة الحجّية لخبرالسيّد قدسسره من حين تحقّقه إنّما يمنع من شمول تلك الأدلّة للأخبار الصادرة قبله،فتبقى الأخبار الصادرة قبله مشمولة لأدلّة الحجّية، فلا يلزم تخصيص الأكثرالمستهجن، فكيف يلزم أبشع أنواعه الذي هو التخصيص إلى الواحد؟!
وفيه: أنّ معقد الإجماع الذي يدّعيه السيّد قدسسره هو عدم حجّية خبر الواحدمطلقاً في الشريعة الإسلاميّة، لا خصوص الأخبار المتأخّرة عن خبره، وهذنظير ما لو أخبر السيّد قدسسره بوجوب صلاة الجمعة في الشريعة الإسلاميّة، فإنّهيكشف عن حكم إلهي عام لجميع الأفراد وفي كلّ الأزمنة، لا أنّ الوجوبيثبت من حين تحقّق خبره، وعليه فلو كان خبر السيّد مشمولاً لأدلّة الحجّيةلزم منه عدم حجّية الأخبار الآحاد مطلقاً، متقدّمة كانت أو متأخّرة، وهذهو انتهاء التخصيص إلى الواحد المستهجن غايته.
الإشكال الثالث: أنّ أدلّة حجّية الخبر لا تشمل الإخبار مع الواسطة، وهذالإشكال يمكن تقريره بوجوه:
(صفحه 185)
الأوّل: أنّ أدلّة حجّية الخبر منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.
وجوابه: أنّ منشأ الانصراف إمّا كثرة الاستعمال وإمّا كثرة الوجود،وكلاهما منتفيان في المقام، بل الأمر بالعكس؛ لتحقّقهما في الإخبار معالواسطة، فدعوى الانصراف لا منشأ له.
وعلى فرض تسليم انصراف الأدلّة عن الإخبار مع الواسطة إنّما نسلّمه فيمإذا كانت الوسائط كثيرة جدّاً، لا فيما كانت الوسائط قليلة، فإنّا نقطع بصدورالأخبار الواصلة إلينا في الكتب الأربعة من المشايخ، ولانحتاج في إثباتصدور تلك الأحاديث عنهم إلى أدلّة الحجّية، فتبقى في البين الوسائطالموجودة بينهم وبين الأئمّة عليهمالسلام ، ومن المعلوم أنّ هذه الوسائط ليست بتلكالكثرة بحيث توجب انصراف الأدلّة عنها.
على أنّ الانصراف يتحقّق في الأدلّة اللفظيّة، والدليل المهمّ لحجّية الخبرـ كما سيأتي ـ هو بناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع عنه، فلا يتحقّقالانصراف فيه، والاقتصار بالقدر المتيقّن في الدليل اللبّي إنّما يكون في موردالشكّ، ولاشكّ لنا في تحقّق بناء العقلاء في الإخبار مع الواسطة كالإخبار بلواسطة.
الوجه الثاني: أنّ أدلّة حجّية الخبر لا تشمل كلّ خبر جاء به العادل، بليتوقّف على أن يكون المخبر به حكماً شرعيّاً أو ذا أثر شرعي؛ لأنّ التعبّدبحجّية الخبر فيما لم يكن المخبر به حكماً شرعيّاً ولا ذا أثر شرعي لغو محض.وعليه فالأدلّة لا تشمل الإخبار مع الواسطة، فإذا قال الشيخ الطوسي ـ مثلاً حدّثني المفيد، قال: حدّثني الصدوق، قال: حدّثني ابن الوليد، قال: حدّثنيالصفّار، قال: كتبت إلى الإمام الحسن العسكري عليهالسلام ...، فدليل الحجّية ليشمل مثل إخبار الشيخ عن خبر المفيد؛ لأنّ المخبر به ـ وهو خبر المفيد
(صفحه186)
ليس حكماً شرعيّاً ولا ذا أثر شرعي مع قطع النظر عن دليل الحجّية، وهذالإشكال جارٍ في جميع سلسلة السند إلاّ الأخير ـ أعني خبر الصفّار ـ لأنّالمخبر في خبره هو قول المعصوم عليهالسلام ، ولا محالة يكون قوله عليهالسلام حكماً منالأحكام الشرعيّة.
وجوابه: أنّ اشتراط ترتّب الأثر على التعبّد بالحجّية إنّما هو من جهة حكمالعقل؛ بأنّ التعبّد بأمر لا يترتّب عليه أثر شرعي لغو محض يستحيل صدورهمن الحكيم، ومن الواضح أنّ التعبّد بحجّية أخبار الوسائط لا يكون لغولوقوع الجميع في سلسلة إثبات الحكم الشرعي، وهذا المقدار كاف للخروجعن اللغويّة وصحّة التعبّد.
والحاصل: أنّ الملاك في صحّة التعبّد بالأمارة ليس هو ترتّب الأثر بالفعلكي يلزم وجود الأثر الشرعي في كلّ واحد من إخبار الوسائط، بل الملاك فيصحّة التعبّد هو الارتباط إلى الحكم الشرعي وعدم لزوم اللغويّة في إعمالالتعبّد، وقد عرفت عدم لزومها فيما نحن فيه لانتهاء الوسائط إلى الحكمالشرعي المنقول عن المعصوم.
الوجه الثالث: أنّ التعبّد بالأمارات القائمة على الموضوعات الخارجيّة إنّمهو باعتبار ما يترتّب عليها من الآثار الشرعيّة، ولولاها لما صحّ التعبّد بها،فمثلاً: التعبّد بخبر العادل القائم على عدالة «زيد» إنّما يكون باعتبار ما يترتّبعلى عدالة «زيد» من جواز الاقتداء به في الصلاة وقبول شهادته وغير ذلك.
ثمّ إذا كان الخبر عن المعصوم عليهالسلام بلا واسطة كإخبار محمّد بن مسلم عنالصادق عليهالسلام بوجوب شيء ـ مثلاً ـ فلا إشكال في صحّة التعبّد بخبره لترتّبالأثر الشرعي عليه، وأمّا إذا كان الخبر مع الواسطة كإخبار الشيخ عن المفيدعن الصدوق، إلى آخره، فالتعبّد بإخبار الوسائط ممّا لا يترتّب عليه أثر