(صفحه188)
موضوع متأخّر عنه رتبة؛ لاستحالة فعليّة الحكم بلا فعليّة موضوعه، وعليهفيستحيل أن يوجد حكم يكون موجباً لإحراز موضوعه، ولو فرض أنّحكماً أوجب إحراز موضوعه امتنع ثبوت ذلك الحكم عليه؛ لاستلزامه فعليّةالحكم قبل فعليّة موضوعه، وقد عرفت استحالته.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه إذا أخبرنا الشيخ بأنّه أخبره المفيد،وهكذا، فإنّ خبر الشيخ واصل إلينا بلا واسطة ويكون مشمولاً لأدلّة الحجّية؛لأنّه خبر محرز بالوجدان، فيترتّب عليه الحكم، أعني وجوب تصديق العادل،وأمّا خبر المفيد فلا يثبت كونه خبراً له إلاّ بعد ثبوت حكم وجوب التصديقبخبر الشيخ؛ إذ لولا تصديق خبر الشيخ لا يثبت أنّ المفيد قد أخبره بحديثالصدوق، فيكون خبر المفيد متأخّراً رتبةً عن فعليّة حكم وجوب التصديق،ومعه لا يمكن ترتيب حكم وجوب تصديق العادل عليه، وإلاّ يستلزم فعليّةالحكم قبل فعليّة موضوعه، وهو محال.
والجواب عن هذا الإشكال: أوّلاً: بنقض الإقرار بالإقرار وبالبيّنة علىالبيّنة، حيث يحكم بنفوذ الأوّل وحجّية الثاني.
وثانياً: بالحلّ، وهو أنّ فعليّة الحكم قبل فعليّة موضوعه إنّما يلزم فيما إذكان الحكم المترتّب على خبر المفيد هو نفس الحكم المترتّب على خبر الشيخ،مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ المترتّب على خبر المفيد هو وجوب تصديقآخر، وذلك لأنّ حكم وجوب تصديق العادل إنّما هو كسائر الأحكامالشرعيّة في كونه مجعولاً بنحو القضيّة الحقيقيّة، والحكم فيها وإن كان بحسبالإنشاء واحداً إلاّ أنّه بحسب المنشأ ينحلّ إلى أحكام عديدة حسب تعدّدالأفراد خارجاً، فيكون لكلّ فرد من موضوع القضيّة حكم برأسه، وعليه فميترتّب على خبر الشيخ من حكم وجوب التصديق لا يترتّب بعينه وشخصه
(صفحه 189)
على خبر المفيد، بل المترتّب على خبره وجوب تصديق آخر، ومن هنا تظهرحقيقة الأمر في مسألتي الإقرار بالإقرار والبيّنة على البيّنة.
ثمّ إنّ هناك محاولة شريفة لاُستاذنا السيّد الإمام الخميني قدسسره (1) بإرجاعالخبر مع الواسطة إلى الخبر بلا واسطة، ومعه لا يبقى موضوع لأصل الإشكالبوجوهه الأربعة، وذلك لأنّ العرف لا يرى في الخبر مع الواسطة إخباراتوموضوعات متعدّدة بتعدّد المخبرين حتّى يتطلّب كلّ موضوع أثراً خاصّاً به،وإنّما يرى خبراً واحداً لا غير يحكي عن قول المعصوم عليهالسلام ، فالخبر المعنعنالمسلسل عندهم خبر واحد لا أخبار متعدّدة؛ إذ نظرهم إلى الوسائط طريقيوليس موضوعيّاً، والشاهد على ذلك انصراف الأدلّة الدالّة على احتياجالموضوعات إلى البيّنة وعدم كفاية الخبر الواحد فيها عن إخبار الوسائط معكونها من الموضوعات، كما هو واضح.
هذا تمام الكلام في الاعتراضات العامّة على أدلّة حجّية خبر الواحد، وقدعرفت عدم تماميّة شيء منها.
الآية الثانية: قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّفِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَـآلـءِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوآاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْيَحْذَرُونَ»(2).
وتقريب الاستدلال بها يتمّ بضمّ اُمور ثلاثة:
الأوّل: أنّ الآية الشريفة تدلّ على وجوب تحذّر القوم عقيب الإنذار، وقدذكروا وجوهاً للدلالة المذكورة:
الأوّل: أنّ كلمة «لعلّ» وضعت لإنشاء الترجّي لا للترجّي الحقيقي، فإنّه
- (1) تهذيب الاُصول 2: 126 ـ 127.
(صفحه190)
ملازم للعجز الذي يستحيل في حقّه تعالى، ولكنّ الداعي للاستعمال هو إظهارمحبوبيّة التحذّر ورجحانه، وإذا ثبتت محبوبيّته ثبت وجوبه شرعاً وعقلاً.
أمّا شرعاً فللإجماع المركّب حيث إنّ الأصحاب بين من لا يجوّز العملبخبر الواحد أصلاً ـ كالسيّد المرتضى قدسسره ـ وبين من يلتزم بحجّيته بمعنى وجوبالعمل به، فالقول بجواز العمل بالخبر ورجحانه دون وجوبه خرق للإجماعالمركّب.
وأمّا عقلاً فلوجود الملازمة العقليّة بين حسن الحذر ووجوبه؛ إذ مع وجودالمقتضي للحذر يجب لا محالة، ومع عدم وجود المقتضي لا حسن للحذرأصلاً، بل لا يمكن الحذر بدون المقتضي له.
الوجه الثاني: دعوى الملازمة بين الإنذار الواجب بسبب كونه غاية للنفرالواجب وبين وجوب الحذر؛ لأنّ الحذر وقع غاية للإنذار الواجب، وغايةالواجب واجبة.
الوجه الثالث: أنّه لولا وجوب التحذّر لكان الأمر بالنفر والإنذار لغواً، فإذوجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب وجب التحذّر والقبول من المنذر.
الأمر الثاني: أنّ التحذّر واجب مطلقاً، أي سواء أفاد قول المنذر العلمأو لا.
الأمر الثالث: أنّ وجوب التحذّر بنحو مطلق مساوق لحجّية خبر الواحدشرعاً؛ إذ لولا حجّيته لما وجب العمل بقول المنذر إلاّ في حال حصول العلممنه.
والحقّ عدم تماميّة الاستدلال بهذه الآية الشريفة على حجّية خبر الواحد،وذلك لعدم تماميّة الأمر الأوّل والثاني من الاُمور الثلاثة، فلا تصل النوبة إلىالأمر الثالث.
(صفحه 191)
أمّا الأمر الأوّل فهو غير تامّ بوجوهه الثلاثة:
أمّا الوجه الأوّل فلعدم تماميّة الملازمة بين محبوبيّة التحذّر ووجوبه لشرعاً ولا عقلاً، أمّا عدم الملازمة شرعاً فلأنّ المجدي في ثبوتها هو الإجماععلى عدم الفصل، وهو غير ثابت في المقام، وإنّما الثابت هو عدم القول بالفصل،وهذا غير مفيد؛ لعدم كونه إجماعاً كما لا يخفى. وأمّا عدم الملازمة عقلاً فلأنّمجرّد حسن الحذر لا يلازم وجوبه عقلاً؛ ضرورة حسن الحذر في الشبهاتالبدويّة مع عدم وجوبه عقلاً، فغاية ما تدلّ عليه أداة الترجّي هو محبوبيّةالتحذّر وحسنها بخلاف وجوبها.
وأمّا الوجه الثاني فلأنّ كبرى غاية الواجب واجبة ـ على فرض تماميّتها إنّما تكون فيما إذا كانت الغاية من الأفعال الاختياريّة التي يصحّ تعلّق التكليفبها، والغاية فيما نحن فيه ليست كذلك؛ لأنّ المراد بالتحذّر ليس التحذّر العمليالحاصل بالعمل على طبق قول المنذر، بل المراد به التحذّر القلبي، ومنالواضح أنّ التحذّر والخوف النفساني من الأعراض والأوصاف النفسانيّة التيلا يمكن أن تقع مورداً للتكليف؛ إذ وجودها وعدمها يدور مدار وجود عللهومبادئها وعدمها، كما مرّ توضيح ذلك في بحث الموافقة الالتزاميّة.
ولكنّ الدقّة في الآية الشريفة تقتضي أنّها نزلت في مورد النفر إلى الجهادبلحاظ استعمال كلمة «النفر» في القرآن في النفر إلى الجهاد على ما هو الظاهر،فتكون الآية في مقام تشويق طائفة من كلّ فرقة للنفر إلى الجهاد بداعي التفقّهحين الجهاد في حالات المجاهدين والأسرار التي تتحقّق في الغزوات منالخصوصيّات غير العاديّة، وإنذار أقوامهم المشركين بها بعد الرجوع إليهمليحصل لهم التحذّر والخوف النفساني.
وإن قيل بنزولها في مورد النفر إلى التفقّه بأحكام الدين من الواجبات
(صفحه192)
والمحرّمات وإنذار قومهم بها بعد الرجوع إليهم.
وقال بعض ـ على ما نقل عن ابن عبّاس في شأن نزول الآية ـ : إنّ بعد عدمشركة المنافقين في غزوة تبوك، وبناء المسلمين بالشركة في كلّ غزوة وسريّة،وبقاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وحده في غزوة بالمدينة، فنزلت الآية بهذه المناسبة، وأنّاللازم بقاء عدّة للتفقّه وإنذار المجاهدين بعد الرجوع إليهم لعلّهم يحذرون.
ولكنّه مخالف لظاهر الآية وذلك أوّلاً: أنّ التفقّه في الآية وظيفة النافرين،وثانياً: أنّ قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» لا يناسب المجاهدين بل يناسبالكفّار، ولذا نرى في القرآن في مقام تشويق موسى عليهالسلام بالذهاب إلى فرعون،والأمر بموعظته قوله تعالى: «لَّعَلَّهُو يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1).
وأمّا الوجه الثالث فلأنّه يكفي في عدم لغويّة وجوب الإنذار كونه مفيدللعلم في بعض الأحيان، فيختصّ وجوب العمل بقول المنذر بما إذا أفاد العلم.
وأمّا الأمر الثاني فقد ذكر لإثبات إطلاق وجوب التحذّر أمران:
الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني قدسسره (2) من أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى:«لِّيَتَفَقَّهُواْ» وفي قوله «لِيُنذِرُواْ» وفي قوله «ليحذروا»، هو الجمع الاستغراقيالأفرادي، لا المجموعي الارتباطي؛ لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد فردمن أفراد الطائفة النافرين أو المتخلّفين ـ على الوجهين في تفسير الآية ـ وليسالمراد تفقّه مجموع الطائفة من حيث المجموع، كما أنّه ليس المراد إنذار المجموعمن حيث المجموع، بل المراد أن يتفقّه كلّ واحد من النافرين أو المتخلّفينوينذر كلّ واحد منهم.
وبالجملة، كما أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: «يَحْذَرُونَ» هو الجمع
- (2) فوائد الاُصول 3: 186 ـ 187.