(صفحه 199)
الأخبار بالألفاظ المختلفة، والالتزام بحجّية ما هو أخصّ مضموناً منها.
ثمّ اختلف العلماء فيما هو الأخصّ مضموناً منها.
قال المحقّق النائيني قدسسره (1): إنّ أخصّ تلك الأخبار مضموناً هو الأخبار الدالّةعلى جواز العمل بخبر الثقة.
وفيه: أنّ مفاد هذه الأخبار مختلف، فإنّ ظاهر بعضها كفاية مجرّد الوثاقة فيالراوي، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «نعم»، بعد قول السائل: أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟(2) وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك إماميّاً،كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويهعنّا ثقاتنا».(3)
فإنّ إضافة الثقة إليهم عليهم السلام ظاهرة في اعتبار كون الراوي إماميّاً،وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك عادلاً، كما هو الظاهر من بعض الأخبارالعلاجيّة من قوله عليهالسلام : «خذ بما يقول به أعدلهما»(4)، فإنّ ترجيح الأعدل دليلعلى مفروغيّة اعتبار أصل العدالة. وعليه فكيف يمكن القول بأنّ أخصّ تلكالأخبار هو جواز العمل بخبر الثقة؟
وقال بعض: إنّ القدر المتيقّن من الأخبار هو خبر العدل الإمامي الثقة، فليستفاد من هذه الأخبار إلاّ حجّية الخبر الصحيح الأعلائي.
ويستفاد من كلام اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (5): «أنّ القدر المتيقّنمن تلك الأخبار هو الخبر الحاكي عن الإمام عليهالسلام بلا واسطة مع كون
- (1) أجود التقريرات 2: 113 ـ 114.
- (2) الوسائل 27: 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
- (3) المصدر السابق: 150، الحديث 40.
- (4) الوسائل 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
- (5) تهذيب الاُصول 2: 131.
(صفحه200)
الراوي من الفقهاء العدول الإماميّة أمثال زرارة ومحمّد بن مسلموأبي بصير».
ففي صحيحة يونس بن عمّار: أنّ أبا عبداللّه عليهالسلام قال له في حديث: «أمّا مرواه زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام فلا يجوز لك أن تردّه».(1)
وفي حسنة عبداللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : إنّه ليس كلّساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليسعندي كلّ ما يسألني عنه، فقال عليهالسلام : «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي،فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً».(2)
وفي صحيحة شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : ربما احتجنا أننسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال عليهالسلام : «عليك بالأسدي»، يعني أبا بصير(3).
وهذا الرأي هو الصحيح، فالقدر المتيقّن ليس مجرّد الخبر الصحيحالأعلائي، بل هو مع كون الخبر بلا واسطة وكون الراوي من الفقهاء نظيرالرواة المذكورة، بل مع كون الراوي كثير الرواية، كما يستفاد من جملة: «فإنّهسمع من أبي وكان عنده وجيهاً».
الدليل الثالث ـ الإجماع:
وتقريره من وجوه:
الوجه الأوّل: الإجماع القولي المنقول عن الشيخ الطوسي قدسسره على حجّيةخبر الواحد.
وفيه: أوّلاً: أنّه معارض بالإجماع المنقول عن السيّد المرتضى قدسسره على عدمحجّية خبر الواحد.
- (1) الوسائل 27: 143، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 17.
- (2) المصدر السابق: 144، الحديث 23.
- (3) المصدر السابق: 142، الحديث 15.
(صفحه 201)
وثانياً: أنّ الإجماع المنقول من أفراد الخبر الواحد، فكيف يمكن الاستدلالبه على حجّية خبر الواحد؟!
وثالثاً: أنّ ناقل الإجماع إنّما يخبر عن رأي المعصوم عليهالسلام عن حدس لحسّ، فلا يكون الإجماع المنقول حجّة.
الوجه الثاني: الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء عدا السيّد المرتضى قدسسره وأتباعه على حجّية خبر الواحد، وخلافهم غير قادح في حجّية الإجماع؛لمعلوميّة نسبهم.
وفيه: بعد عدم تماميّة مبنى الإجماع الدخولي أنّ هذا الإجماع لا يكشف عنرأي المعصوم عليهالسلام للعلم بأنّ مستند المجمعين هو الآيات والروايات، والإجماعالمدركي ليس بحجّة، ولا أقلّ من احتمال ذلك، فإنّه يكفي في سقوطه عنالحجّية كما لا خفى.
الوجه الثالث: الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء على حجّية خبرالواحد حتّى السيّد المرتضى قدسسره وأتباعه، بدعوى: أنّ ذهابهم إلى عدم الحجّيةإنّما كان لأجل اعتقادهم بانفتاح باب العلم في الأحكام الشرعيّة، فلو كانوا فيزماننا المنسدّ فيه باب العلم لحكموا بحجّية الخبر قطعاً.
وفيه: مضافاً إلى كون بعض أتباعه ـ كالمرحوم الطبرسي ـ من المتأخّرينوإمكان انسداد باب العلم في زمان السيّد المرتضى قدسسره أنّه من المحتمل أنّ السيّدالمرتضى قدسسره وأتباعه بعد الاعتقاد بانسداد باب العلم كان يذهب إلى حجّيةالخبر الواحد من باب الظنّ المطلق، لا الظنّ الخاص الذي هو محلّ البحث.
الوجه الرابع: الإجماع العملي من جميع العلماء من الصدر الأوّل إلى يومنهذا من الاخباريّين والاُصوليّين على العمل بخبر الواحد.
وفيه: أنّ عمل جميع العلماء بالخبر ليس مستنداً إلى حجّية خبر الواحد بم
(صفحه202)
هو خبر واحد؛ إذ عمل بعضهم به مبني على كون ما في الكتب الأربعة مقطوعالصدور، وعمل بعض آخر منهم مبني على كون ما بأيدينا من الأخبار فينفسها مطمئنّة الصدور، وعمل جملة اُخرى مبني على احتفاف هذه الأخباربقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها، وهكذا.
نعم، عمل بعضهم مبنيّ على حجّية خبر الواحد بما هو خبر الواحد، إلاّ أنّهذا لا يكون إجماعاً ليكشف عن رأي المعصوم عليهالسلام .
الوجه الخامس: الإجماع العملي من جميع المتشرّعة الذي يسمّى بسيرةالمتشرّعة على العمل بخبر الواحد.
وفيه: أنّ جميع المتشرّعة في عصر النبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام وإنكان عملهم بالخبر الواحد ممّا لا يقبل الإنكار؛ إذ من المقطوع أنّهم لم يأخذوالأحكام من نفس النبيّ والإمام عليهم الصلاة والسلام بلا واسطة شخصآخر، إلاّ أنّ عملهم بخبر الواحد ليس لأجل كونهم مسلّمين لتحقّق سيرةالمتشرّعة، بل عملهم به من باب كونهم عقلاء بما هم عقلاء والذي يسمّىبالسيرة العقلائيّة، فلابدّ من صرف عنان البحث إلى السيرة العقلائيّة، وهذا مسنبحثه بعد دليل العقل.
الدليل الرابع ـ العقل:
وتقريره من وجوه:
الأوّل: إنّا نعلم إجمالاً بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا عنالمعصوم عليهالسلام ولا نحتمل أن يكون جميعها مجعولة، خصوصاً مع ملاحظة حالالرواة وأرباب الكتب الروائيّة وشدّة اهتمامهم بتنقيح ما أودعوه في تلكالكتب.
ومقتضى هذا العلم الإجمالي هو الاحتياط، والأخذ بجميع هذه الأخبار
(صفحه 203)
الموجودة في الكتب المعتبرة بحكم العقل.
وفيه: أنّ هذا الوجه ـ على تقدير تماميّته ـ لا يثبت إلاّ لزوم الأخذ بالأخبارمن باب الاحتياط، لا من باب الحجّية التي هي محلّ الكلام، بحيث يكونمخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات.
الوجه الثاني: إنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، ولاسيّما الواجباتالضروريّة، مثل: الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وغيرها، ومعلوم أنّ أجزاءهذه الواجبات وشرائطها وموانعها لا تثبت إلاّ بالأخبار الموجودة في الكتبالمعتبرة، ولو لم يكن الخبر الواحد حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذهالواجبات عن حقائقها، وهذا ينافي كون تلك الواجبات ضروريّة وبقاءالتكليف بها إلى يوم القيامة.
وفيه: أنّ مقتضى هذا الوجه أيضاً هو وجوب العمل بكلّ خبر دلّ علىالجزئيّة والشرطيّة من باب حكم العقل بلزوم الاحتياط للعلم الإجمالي، لمن باب أنّه حجّة يخصّص به العمومات ويقيّد به المطلقات كما هو محلّالبحث.
الوجه الثالث: ما حكي عن المحقّق صاحب الحاشية على المعالم قدسسره (1) من أنّنعلم بلزوم الرجوع إلى السنّة والعمل بها؛ لحديث الثقلين الثابت تواتره عندالعامّة والخاصّة، وحينئذٍ فإن أمكن إحراز السنّة بالعلم فهو، وإلاّ فلابدّ منالتنزّل إلى الظنّ والعمل بما يظنّ صدوره منهم عليهمالسلام .
وفيه: إن كان المقصود من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريرهفالوجوب الرجوع إليها وإن كان ثابتاً بالأدلّة القطعيّة بلا ريب، إلاّ أنّ هذالمعنى لا يرتبط بما هو محلّ الكلام من حجّية خبر الواحد الحاكي عن السنّة.
- (1) هداية المسترشدين 3: 373 ـ 374.