(صفحه222)
وأورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) بأنّ نحو تعلّق الفعل بالمفعول المطلقوالمفعول به مبائن لا جامع بينهما، وأمّا تعدّد الدال والمدلول أو إقامة القرينةعلى الخصوصيّات فإنّما هو فيما إذا كان هناك جامع حقيقي كي تكونالخصوصيّات من مصاديقه، وقد عرفت أنّه لا جامع في المقام للتباين الموجودبين نسبة تعلّق الفعل إلى المفعول المطلق ونسبة تعلّقه إلى المفعول به.
والظاهر أنّه قابل للمساعدة، فإنّ ارتباط الحاصل بين الفعل والمفعول منسنخ المعاني الحرفيّة، ومعلوم أنّ النسب متبائنة ذاتاً، وكما لا يكون الجامع بيننسبة الظرفيّة في جملة «زيد في الدار» ونسبة الاستعلاء في جملة «زيد علىالسطح» فكذلك لا يكون الجامع بين نسبة الفعل إلى المفعول به ونسبته إلىالمفعول المطلق.
ولكن على فرض صحّة كلام المحقّق العراقي قدسسره (2) وتماميّة الاحتمال الرابعثبوتاً في معنى الآية لا يصحّ الاستدلال به في المقام كما قال المحقّق العراقي قدسسره :بأنّه لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لاستفادة البراءة، وذلك لعدم تماميّة الإطلاقمع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، حيث إنّ القدر المتيقّن منه بقرينةالمورد إنّما هو خصوص المال، ومثله يمنع عن الأخذ بإطلاق الموصول لما يعمّالمال والفعل والتكليف.
وفيه: أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يمنع من التمسّكبالإطلاق، وانتفاؤه لا يكون من مقدّمات الحكمة، كما مرّ تحقيقه في مبحثالمطلق والمقيّد.
وأمّا الجهة الثانية فالصحيح أنّ الآية غير ظاهرة في الاحتمال الأوّل والرابع
- (1) تهذيب الاُصول 2: 143.
- (2) نهاية الأفكار 3: 203.
(صفحه 223)
على فرض إمكانه، ولا تكون صالحة للاستدلال على البراءة، وذلك لإجمالها؛إذ كما يحتمل أن يراد من الموصول خصوص الحكم أو الأعمّ منه ومن الإيتاءالإعلام أو الأعمّ منه، كذلك يحتمل أن يراد منه خصوص المال، ومن الإيتاءالملكيّة، أو يراد من الموصول الفعل أو الترك، ومن الإيتاء الإقدار عليهما،وعليه فالآية مردّدة بين هذه الاحتمالات، ومن الواضح أنّه لا ظهور لها فيالاحتمال الأوّل والرابع المثبتين للبراءة لولا دعوى ظهورها بقرينة المورد فيالاحتمال الثاني أو الثالث، وهما أجنبيّان عن البراءة.
على أنّ التمسّك بالإطلاق فرع تعلّق الإرادة الاستعماليّة في المطلق.
توضيح ذلك: أنّ الاحتمال الرابع ـ بعد فرض إمكانه ثبوتاً وبعد عدم مانعيّةوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب عن التمسّك بالإطلاق ـ لا يصحّ أنيكون مبنى للاستدلال، فإنّ التمسّك بالإطلاق يكون لتشخيص المراد الجدّيللمولى وتطابقه مع مراده الاستعمالي بعد إحراز أنّ مراده الاستعمالي من اللفظهو المطلق بلا شبهة، ولم يحرز هذا المعنى فيما نحن فيه، فكيف يمكن التمسّكبالإطلاق الاحتمالي؟!
وأمّا الجهة الثالثة فلو سلّمنا بدلالة الآية على البراءة، فهل مفادها سنخمفاد ينفي وجوب الاحتياط حتّى يكون معارضاً لأدلّته لو تمّت، أو يكونمفاده محكوماً لأدلّة الاحتياط؟
ذهب المحقّق العراقي قدسسره (1) إلى أنّ غاية ما يستفاد من الآية إنّما هو نفي الكلفةوالمشقّة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلّف، لا نفي الكلفةمطلقاً ولو من قبل جعل إيجاب الاحتياط، فمفاد الآية حينئذٍ مساوق لكبرىقبح العقاب بلا بيان، ومن المعلوم عدم كون مثله مضرّاً بالاحتياط القائل به
- (1) نهاية الأفكار 3: 204.
(صفحه224)
الأخباري، فإنّه يدّعي إثبات الكلفة والمشقّة على المكلّف من جهة جعلإيجاب الاحتياط الواصل إلى المكلّف.
والتحقيق: أنّ مفاد الآية يعارض وجوب الاحتياط وينفيه، وذلك لأنّوجوب الاحتياط كلفة ومشقّة آتية من قبل التكليف المجهول، والآية تدلّعلى رفعها عن المكلّف، ومن الواضح أنّ وجوب الاحتياط ليس وجوبنفسيّاً استقلاليّاً، وإنّما هو وجوب طريقي يأتي من التكليف المجهول لجهةالمحافظة عليه، وإلاّ يلزم تعدّد المثوبة والعقوبة في موارد وجوب الاحتياط،وهو كماترى.
والحاصل ممّا ذكرناه: أنّ دلالة الآيتين المذكورتين على البراءة ليست بتامّة.ثمّ هناك آيات اُخرى استدلّ بها الأعلام في المقام إلاّ أنّ المهمّ منها ما ذكرناه.
الدليل الثاني: السنّة
واستدلّوا بروايات:
الرواية الاُولى: ما رواه الصدوق قدسسره في كتاب الخصال بسند صحيح عنحريز عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : رفع عن اُمّتي تسعة: الخطأ،والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه،والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».(1)
واستقصاء البحث في حديث الرفع يستدعي الكلام في مقامات ثلاثة:
أمّا الأوّل: ففيه اُمور يجب تقديمها لفقه الحديث:
الأوّل ـ في معنى الرفع والدفع: لاشكّ في أنّ الرفع يستعمل عرفاً في إزالةالشيء الموجود مع كون المقتضي للبقاء موجوداً، والدفع يستعمل فيما إذا لم
- (1) الخصال: 417، الحديث 9، الوسائل 15: 369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
(صفحه 225)
يوجد بعد، ولكن كان المقتضي لوجوده موجوداً، فالرفع عبارة عن إزالةالموجود في الزمان السابق عن ورود الرفع؛ بحيث لولا الرفع لكان مستمرّاً فيالوجود، والدفع عبارة عن منع تأثير المقتضي في وجود الشيء وتحقّقه، وعليهفالرفع والدفع متباينان مفهوماً.
الأمر الثاني ـ في بيان المراد من الرفع في الحديث الشريف: ذهب المحقّقالنائيني قدسسره (1) إلى أنّ الرفع هنا بمعنى الدفع بلا عناية وتجوز أصلاً، وذلك لأنّالرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاّحق أو المرتبةاللاّحقة؛ لأنّ بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علّة البقاء وإفاضة الوجود عليهمن المبدأ الفيّاض في كلّ آن، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنّما يكوندفعاً حقيقة باعتبار علّة البقاء، وإن كان رفعاً باعتبار الوجود السابق،فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة المجاز، بل لا يحتاج إلى عنايةأصلاً.
وفيه: أوّلاً: ما عرفت من أنّ الدفع والرفع متباينان مفهوماً لغةً وعرفاً،فلايصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر إلاّ بعناية وتجوّز.
وثانياً: سلّمنا أنّ الشيء يحتاج إلى العلّة حدوثاً وبقاءً، والرفع هو المنع عنتأثير المقتضي في البقاء، ولكن قد يلاحظ الشيء باعتبار الزمان اللاحق معقطع النظر عن وجوده في الزمان السابق، فلا مانع حينئذٍ عن استعمال كلمة«الدفع»، وقد يلاحظ الشيء باعتبار وجوده في الزمان السابق، فلابدّ حينئذٍمن استعمال كلمة «الرفع»، ولذا نرى استعمال كلمة «الوضع» مكان «الرفع» فيلسان الأئمّة المعصومين عليهمالسلام حين الاستدلال بهذا الحديث الشريف في مقابلأهل السنّة، وقالوا: قال صلىاللهعليهوآله : «وضع عن اُمّتي تسعة...» ومعلوم أنّ الوضع إذ
- (1) فوائد الاُصول 3: 336 ـ 337.
(صفحه226)
كان متعدّياً بـ «عن» معناه رفع ما هو متحقّقاً وموجوداً في الخارج، كقولنا:وضع الكتاب عن الأرض، بخلاف ما إذا كان متعدّياً بـ «على»، فلابدّ في معنىالرفع من ملاحظة الوجود في الزمان السابق، فالرفع والدفع متباينان.
مع أنّ ظاهر كلامه قدسسره هو التساوي بين عنواني الرفع والدفع، وما يستفادمن كلامه قدسسره صدراً وذيلاً: أنّ كلّ رفع دفعٌ، وليس كلّ دفع رفعاً، والنسبةبينهما العامّ والخاصّ المطلق، وهذا مخالف للمعنى اللغوي والعرفي.
الأمر الثالث: في أنّ إسناد الرفع بالمعنى المذكور إلى العناوين التسعة هليكون إسناداً حقيقيّاً بحيث لا يحتاج إلى التقدير والتصحيح أم لا؟ مع أنّ المرادمن الرفع ليس هو الرفع التكويني، فإنّا نرى أنّ الاُمور التسعة المذكورةموجودة ومتحقّقة في الخارج.
قال المحقّق النائيني قدسسره (1): إنّه لا حاجة إلى التقدير أصلاً؛ لأنّ التقدير إنّميحتاج إليه فيما إذا توقّف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخباراً عنأمر خارجي، أو كان الرفع رفعاً تكوينيّاً، فلابدّ في تصحيح الكلام من تقديرأمر يخرجه عن الكذب، وأمّا إذا كان الرفع تشريعيّاً فالكلام يصحّ بلا تقدير،فإنّ الرفع التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع، بل إنشاء لحكم يكون وجودهالتشريعي بنفس الرفع والنفي كقوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار»، وكقوله عليهالسلام : «لشكّ لكثير الشكّ» ونحو ذلك ممّا يكون تلوّ النفي أمراً ثابتاً في الخارج.
وفيه: أوّلاً: أنّ شأن النبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام هو الإخبار عنالأحكام والتشريعات، وأمّا الإنشاء والتشريع فله تعالى وحده، وعليهفحديث الرفع إخبار عن أمر خارجي، وهو رفع الشارع تعالى هذه الاُمورالتسعة عن الاُمّة الإسلاميّة، فالشارع في الواقع هو الباري تعالى، والعالم
- (1) فوائد الاُصول 3: 342 ـ 343.