وحديث الرفع لا يتكفّل الوضع.
وفيه: أوّلاً: أنّ الرفع لو كان متعلّقاً بموضوعيّة الموضوعات للأحكام لكانرفعاً حقيقيّاً، بخلاف ما إذا تعلّق بنفس هذه الموضوعات، فإنّه حينئذٍ يكونادّعائيّاً ومحتاجاً إلى مصحّح الادّعاء، والمحقّق العراقي قدسسره ممّن التزم بكون الرفعفي الحديث ادّعائيّاً، وهو ينافي كلامه هنا.
وثانياً: أنّه على خلاف ظاهر الحديث، فإنّ ظاهره هو تعلّق الرفع بنفسهذه الموضوعات والعناوين التسعة، لا أنّ الرفع متعلّق بموضوعيّة هذهالموضوعات للأحكام، ومن الواضح أنّ موضوعيّة الموضوع حيثيّة زائدة علىنفس الموضوع.
الوجه الثاني: ما نسب إلى اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره من أنّ العدم علىقسمين: العدم المطلق والعدم المضاف، أمّا العدم المطلق فهو محض الهلاكوالبطلان؛ إذ لا شيئيّة للعدم، ولذا قالوا: إنّه لا تمايز في الأعدام، وأمّا العدمالمضاف كعدم زيد وعدم عمرو ـ أي العدم المضاف إلى الوجود ـ فيحصل لهحظّ من الوجود، ولذا يلحقه نوع من التمايز، كالتمايز الحاصل بين عدم زيدوعدم عمرو.
ثمّ إنّ المكره ـ مثلاً ـ لا يكره على العدم المطلق، وإنّما يكره على العدمالمضاف، كالإكراه على ترك شرب ماء الفرات، والإكراه على ترك الجزء أوالشرط، وهكذا، وقد عرفت أنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود، فيصحّتعلّق الرفع به(1).
وقد قرّرت هذا البيان من مجلس درسه قدسسره في سنة (1374 هـ .ق)،ولكنّه قدسسره يؤكّد على ما هو الثابت في الفلسفة من أنّ العدم المضاف ـ كالعدم
- (1) هذا الوجه غير مذكور في التهذيب.
(صفحه 231)
المطلق ـ محض الهلاك والبطلان، وأنّ الأعدام مهما كانت لا يعقل في موردهالتقرّر والثبوت.
ولكن ما يقتضي أن نلتزم بتوسعة دائرة حديث الرفع للاُمور الوجوديّةوالعدميّة هو أمران:
الأوّل: أنّ الرفع في الحديث ادّعائيّ لا حقيقيّ، ولذا نقول: إنّ المصحّح لهذالادّعاء هو جميع الآثار.
الثاني: أنّ الشارع جعل بعض الاُمور العدميّة موضوعاً للأحكام الشرعيّة،بل يكون بعض الاُمور العدميّة موضوعاً للأحكام العقليّة، مثل: ترتّب الكفّارةعلى حنث النذر، وترك شرب ماء الفرات في المثال عن إرادة واختيار مع أنّهأمرٌ عدميٌّ، ومثل: استحقاق عقوبة من ترك واجب من الواجبات عقلاً،فيكون عدم الإتيان بالواجب موضوعاً لاستحقاق العقوبة عند العقل.
فلابدّ لنا من الالتزام بأنّ لعدم المضاف حظّ من الوجود في عالم الموضوعيّةللأحكام الشرعيّة والاعتبار، فبالملاك الذي يرتّب الشارع الآثار الشرعيّةعلى ترك شرب ماء الفرات عمداً يرتّب على تركه عن إكراه عدم الكفّارةباستناد حديث الرفع، فلا مانع من تعلّق الرفع بالاُمور العدميّة بعد عدم المانععن كونها موضوعة للأحكام الشرعيّة.
الأمر السادس: أنّه لا شكّ في أنّه لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابتللموضوع بالعناوين المذكورة في الحديث، فمثلاً: وجوب سجدتي السهوالمترتّب على نسيان بعض أجزاء الصلاة أو وجوب الدية المترتّب على قتلالخطأ لا يكون مرفوعاً بحديث الرفع، بل لا يمكن ذلك، فإنّ مفاد حديثالرفع كون طروّ هذه العناوين التسعة موجباً لارتفاع الحكم الثابت للموضوعفي نفسه من باب حكومة الحديث على ما يستفاد منه هذا الحكم ـ كحرمة
(صفحه232)
شرب الخمر مثلاً ـ وتصير دائرة حرمته مضيّقة بما لم يقع عن إكراه بواسطةحديث الرفع، فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين كالمثالينالمذكورين؛ إذ ما يكون موجباً ومقتضياً لثبوت الحكم ـ كالنسيان بالنسبة إلىوجوب سجدتي السهو وقتل الخطأ بالنسبة إلى وجوب الدية ـ لا يعقل أنيكون موجباً ومقتضياً لارتفاعه، مع أنّ معنى حكومة حديث الرفع هنا عدمبقاء مورد لما يدلّ على وجوب الدية وسجدتي السهو أصلاً، لا تضييقه كما هوشأن الحكومة.
الأمر السابع: في كون حديث الرفع مختصّاً بالآثار التي لا يكون في رفعها مينافي الامتنان على الاُمّة، وذلك لأنّ مساق الحديث هو الامتنان والتلطّفعلى الاُمّة، ومن هنا قالوا: إنّ إتلاف مال الغير نسياناً أو خطأً لايرتفع معهالضمان بحديث الرفع؛ إذ رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.
ومن هنا أيضاً فرّقوا بين المضطرّ إلى البيع والمكره عليه، فحكموا بصحّة بيعالأوّل دون الثاني؛ إذ نفي صحّة بيع المضطرّ خلاف الامتنان عليه.
الأمر الثامن: في حكومة حديث الرفع على الأدلّة الواقعيّة، بمعنى كونهناظراً إليها وموجباً للتضييق في مفادها؛ إذ لا شكّ في أنّ مقتضى عموم أدلّةالأحكام الواقعيّة ثبوتها لموضوعاتها من دون دخل للخطأ والنسيان والإكراهوغيرها من العوارض والعناوين، فيكون شرب الخمر حراماً ويترتّب عليهالحدّ مطلقاً بلحاظ عموم الأدلّة، ولكنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة الواقعيّةوحديث الرفع هو اختصاص الحكم الواقعي بغير صورة عروض تلكالحالات والعوارض؛ لحكومة حديث الرفع عليها. وهذا ممّا لا خلاف فيه.
إنّما الكلام في أنّ كيفيّة حكومة حديث الرفع غير كيفيّة حكومة قاعدة «لحرج» و«لا ضرر»، أم لا؟ والمحقّق النائيني قدسسره (1) قائل بالفرق بينهما، فإنّه قال:
- (1) فوائد الاُصول 3: 347.
(صفحه 233)
إنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج إنّما تكون باعتبار عقد الحمل،حيث إنّ الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام؛ إذالحكم قد يكون ضرريّاً أو حرجيّاً، وقد لا يكون، وأمّا في دليل رفع الإكراهوالاضطرار وغير ذلك إنّما تكون الحكومة باعتبار عقد الوضع، فإنّه لا يمكنطروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنّما تعرضلموضوعاتها ومتعلّقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعاتالأحكام نظير قوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ»، و«لا سهو مع حفظ الإمام».
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ حديث الرفع لا يختصّ بالفقرات التي ذكرها قدسسره ؛ إذ منجملتها فقرة «ما لا يعلمون»، وهي بناءً على شمولها للشبهات الحكميّة ـ كما هوأساس الاستدلال به لقاعدة البراءة ـ تكون ناظرة إلى عقد الحمل، فتكونحكومته نظير حكومة أدلّة نفي الضرر والحرج.
وثانياً: أنّ الضرر والحرج إنّما يعرضان أوّلاً وبالذات على الموضوعات،فإنّ الصوم والوضوء عند الضرر يكونان ضرريّين وإن لم يكونا محكومينبالوجوب، وهذا يعني أنّ حكومة دليل نفي الضرر والحرج على الأدلّةالواقعيّة تكون باعتبار عقد الوضع لا عقد الحمل.
وثالثاً: أنّ عدم إمكان عروض الخطأ والنسيان على نفس الأحكام منغرائب الكلام، بداهة أنّهما كما يعرضان على الموضوعات يعرضان على نفسالأحكام أيضاً.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: ففي البحث عن فقرة «ما لا يعلمون»، وهي محلّ الشاهدفي بحث البراءة، حيث تدلّ على أنّ الإلزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّ