(صفحه232)
شرب الخمر مثلاً ـ وتصير دائرة حرمته مضيّقة بما لم يقع عن إكراه بواسطةحديث الرفع، فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين كالمثالينالمذكورين؛ إذ ما يكون موجباً ومقتضياً لثبوت الحكم ـ كالنسيان بالنسبة إلىوجوب سجدتي السهو وقتل الخطأ بالنسبة إلى وجوب الدية ـ لا يعقل أنيكون موجباً ومقتضياً لارتفاعه، مع أنّ معنى حكومة حديث الرفع هنا عدمبقاء مورد لما يدلّ على وجوب الدية وسجدتي السهو أصلاً، لا تضييقه كما هوشأن الحكومة.
الأمر السابع: في كون حديث الرفع مختصّاً بالآثار التي لا يكون في رفعها مينافي الامتنان على الاُمّة، وذلك لأنّ مساق الحديث هو الامتنان والتلطّفعلى الاُمّة، ومن هنا قالوا: إنّ إتلاف مال الغير نسياناً أو خطأً لايرتفع معهالضمان بحديث الرفع؛ إذ رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.
ومن هنا أيضاً فرّقوا بين المضطرّ إلى البيع والمكره عليه، فحكموا بصحّة بيعالأوّل دون الثاني؛ إذ نفي صحّة بيع المضطرّ خلاف الامتنان عليه.
الأمر الثامن: في حكومة حديث الرفع على الأدلّة الواقعيّة، بمعنى كونهناظراً إليها وموجباً للتضييق في مفادها؛ إذ لا شكّ في أنّ مقتضى عموم أدلّةالأحكام الواقعيّة ثبوتها لموضوعاتها من دون دخل للخطأ والنسيان والإكراهوغيرها من العوارض والعناوين، فيكون شرب الخمر حراماً ويترتّب عليهالحدّ مطلقاً بلحاظ عموم الأدلّة، ولكنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة الواقعيّةوحديث الرفع هو اختصاص الحكم الواقعي بغير صورة عروض تلكالحالات والعوارض؛ لحكومة حديث الرفع عليها. وهذا ممّا لا خلاف فيه.
إنّما الكلام في أنّ كيفيّة حكومة حديث الرفع غير كيفيّة حكومة قاعدة «لحرج» و«لا ضرر»، أم لا؟ والمحقّق النائيني قدسسره (1) قائل بالفرق بينهما، فإنّه قال:
- (1) فوائد الاُصول 3: 347.
(صفحه 233)
إنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج إنّما تكون باعتبار عقد الحمل،حيث إنّ الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام؛ إذالحكم قد يكون ضرريّاً أو حرجيّاً، وقد لا يكون، وأمّا في دليل رفع الإكراهوالاضطرار وغير ذلك إنّما تكون الحكومة باعتبار عقد الوضع، فإنّه لا يمكنطروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام، بل إنّما تعرضلموضوعاتها ومتعلّقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعاتالأحكام نظير قوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ»، و«لا سهو مع حفظ الإمام».
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ حديث الرفع لا يختصّ بالفقرات التي ذكرها قدسسره ؛ إذ منجملتها فقرة «ما لا يعلمون»، وهي بناءً على شمولها للشبهات الحكميّة ـ كما هوأساس الاستدلال به لقاعدة البراءة ـ تكون ناظرة إلى عقد الحمل، فتكونحكومته نظير حكومة أدلّة نفي الضرر والحرج.
وثانياً: أنّ الضرر والحرج إنّما يعرضان أوّلاً وبالذات على الموضوعات،فإنّ الصوم والوضوء عند الضرر يكونان ضرريّين وإن لم يكونا محكومينبالوجوب، وهذا يعني أنّ حكومة دليل نفي الضرر والحرج على الأدلّةالواقعيّة تكون باعتبار عقد الوضع لا عقد الحمل.
وثالثاً: أنّ عدم إمكان عروض الخطأ والنسيان على نفس الأحكام منغرائب الكلام، بداهة أنّهما كما يعرضان على الموضوعات يعرضان على نفسالأحكام أيضاً.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: ففي البحث عن فقرة «ما لا يعلمون»، وهي محلّ الشاهدفي بحث البراءة، حيث تدلّ على أنّ الإلزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّ
(صفحه234)
لا يعلم، فهو مرفوع عن المكلّف، وهذا هو معنى البراءة.
ولا شكّ في أنّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكميّةإنّما يتمّ فيما إذا اُريد من الموصول خصوص الحكم أو ما يعمّ الحكم والموضوعالخارجي؛ إذ لو كان المراد من الموصول خصوص الفعل الصادر من المكلّففي الخارج ـ بمعنى كون الفعل غير معلوم العنوان للمكلّف بأن لا يعلم أنّشرب هذا المائع مثلاً شرب خمر أو شرب خلّ ـ يلزم اختصاص الحديثبالشبهات الموضوعيّة.
وربما يقال بأنّ المراد من الموصول هو الفعل الخارجي لا غير، وذلكلاُمور:
الأوّل: أنّه لا شكّ في أنّ المراد بالموصول في بقية الفقرات هو خصوصالفعل الخارجي؛ لأنّ الفعل هو الذي يتعلّق به الاضطرار والإكراه وهكذا، ولمعنى لتعلّقها بالحكم، فيكون المراد من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» هوالفعل أيضاً بشهادة وحدة السياق.
وقد اُجيب عن هذا الأمر بجوابين:
الأوّل: ما أفاده المحقّق العراقي قدسسره (1) من إنكار أصل وحدة السياق، حيث إنّمن الفقرات في الحديث: الطيرة والحسد والوسوسة، ولايكون المراد منهالفعل، فمع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوعالمشتبه؟!
مضافاً إلى أنّ ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة اُخرى،فإنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» هو ما كان بنفسه معروض عدمالعلم كما في غيره من العناوين الاُخرى كالاضطرار والإكراه وغيرهما، حيث
- (1) نهاية الأفكار 3: 216.
(صفحه 235)
كان الموصول فيها معروضاً للأوصاف المزبورة، فتخصيص الموصولبالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور؛ إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضللجهل، وإنّما المعروض له هو عنوانه.
وحينئذٍ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في ملا يعلم على الحكم المشتبه، وبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادةالفعل، ولاريب في أنّ العرف يرجّح الأوّل، فيتعيّن الحمل في «ما لا يعلمون»على إرادة الحكم.
وهذا الجواب قابل للمناقشة بكلا شقّيه، أمّا الشقّ الأوّل فيردّ عليه: بأنّالفقرات الثلاث من «الطيرة والحسد والوسوسة» أيضاً من الأفعال، إلاّ أنّهمن الأفعال الجوانحيّة لا الجوارحيّة، فهذه الفقرات لا تكون قادحة بوحدةالسياق.
وأمّا الشقّ الثاني: فأورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) وتقرير بيانه: أنّالمجهول في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو نفس الفعل أيضاً لا عنوانه فقط، فإنّالشيء إذا كان بنوعه مجهولاً يصحّ أن يقال: إنّ هذا الشيء مجهول، فإذا علمنبأنّ هذا مائع، ولكن لا نعلم أنّه من نوع الخلّ أو من نوع الخمر فيصحّ أننقول: إنّ شرب هذا المائع مجهول لنا، فيصحّ إسناد الجهل حقيقة إلى الفعلأيضاً.
الجواب الثاني: ما أفاده المحقّق المؤسّس الحائري قدسسره (2)، وهو: أنّ الموصولفي جميع الفقرات قد استعمل في معناه الحقيقي من المفهوم المبهم المرادفللشيء، ولذا يقال في علم النحو: إنّ الموصول من المبهمات لا يعرف إلاّ بصلته،
- (1) تهذيب الاُصول 2: 151.
(صفحه236)
فمعنى «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون» هو رفع عن اُمّتي الشيء الذي لا يعلمونه،غاية الأمر أنّ الشيء الذي هو معنى الموصول في جميع الفقرات لا يعرف إلبصلته، فإنّ الشيء المضطرّ إليه لا ينطبق خارجاً إلاّ على الأفعال الخارجيّة،وهكذا الشيء المكره عليه، وهذا بخلاف الشيء المجهول فإنّه ينطبق أيضاً علىالحكم، ومن الواضح أنّ الاختلاف بين المصاديق إنّما هو بلحاظ عالم الانطباقلا عالم الاستعمال، وليس الموصول مستعملاً في المصاديق حتّى يختلّ نظاموحدة السياق.
ألاترى أنّه إذا قيل: ما يؤكل وما يرى في قضيّة واحدة لا يوجب انحصارُأفراد الأوّل في الخارج ببعض الأفراد تخصيصَ الثاني أيضاً بذلك البعض.
وهذا الجواب متين وصحيح لا إشكال فيه.
الأمر الثاني: أنّه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعيّة، وهذيعني أنّ إرادة الفعل من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» يقيني، فإذا اُريد بهالحكم أيضاً لزم استعمال الموصول في معنيين، وهذا النحو من الاستعمال ممتنعكما قال به صاحب الكفاية قدسسره (1)، أو غير جائز.
وفيه: مضافاً إلى عدم امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ـ كما مرّتحقيقه في مباحث الألفاظ ـ أنّ الموصول في الحديث لم يستعمل في الفعل ولفي الحكم، بل استعمل في معنى واحد، وهو معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء.نعم، هذا المفهوم المبهم قد ينطبق على الفعل، وقد ينطبق على الحكم، وقدعرفت أنّ تعدّد المصاديق واختلافها لا يوجب تعدّد المعنى المستعمل فيه.
الأمر الثالث: أنّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً ثقيلاً، خصوصمع ملاحظة أنّ حديث الرفع قد ورد في مقام الامتنان، ومن الواضح أنّ الثقيل
- (1) كفاية الاُصول 2: 174 ـ 175.