(صفحه 235)
كان الموصول فيها معروضاً للأوصاف المزبورة، فتخصيص الموصولبالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور؛ إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضللجهل، وإنّما المعروض له هو عنوانه.
وحينئذٍ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في ملا يعلم على الحكم المشتبه، وبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادةالفعل، ولاريب في أنّ العرف يرجّح الأوّل، فيتعيّن الحمل في «ما لا يعلمون»على إرادة الحكم.
وهذا الجواب قابل للمناقشة بكلا شقّيه، أمّا الشقّ الأوّل فيردّ عليه: بأنّالفقرات الثلاث من «الطيرة والحسد والوسوسة» أيضاً من الأفعال، إلاّ أنّهمن الأفعال الجوانحيّة لا الجوارحيّة، فهذه الفقرات لا تكون قادحة بوحدةالسياق.
وأمّا الشقّ الثاني: فأورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) وتقرير بيانه: أنّالمجهول في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو نفس الفعل أيضاً لا عنوانه فقط، فإنّالشيء إذا كان بنوعه مجهولاً يصحّ أن يقال: إنّ هذا الشيء مجهول، فإذا علمنبأنّ هذا مائع، ولكن لا نعلم أنّه من نوع الخلّ أو من نوع الخمر فيصحّ أننقول: إنّ شرب هذا المائع مجهول لنا، فيصحّ إسناد الجهل حقيقة إلى الفعلأيضاً.
الجواب الثاني: ما أفاده المحقّق المؤسّس الحائري قدسسره (2)، وهو: أنّ الموصولفي جميع الفقرات قد استعمل في معناه الحقيقي من المفهوم المبهم المرادفللشيء، ولذا يقال في علم النحو: إنّ الموصول من المبهمات لا يعرف إلاّ بصلته،
- (1) تهذيب الاُصول 2: 151.
(صفحه236)
فمعنى «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون» هو رفع عن اُمّتي الشيء الذي لا يعلمونه،غاية الأمر أنّ الشيء الذي هو معنى الموصول في جميع الفقرات لا يعرف إلبصلته، فإنّ الشيء المضطرّ إليه لا ينطبق خارجاً إلاّ على الأفعال الخارجيّة،وهكذا الشيء المكره عليه، وهذا بخلاف الشيء المجهول فإنّه ينطبق أيضاً علىالحكم، ومن الواضح أنّ الاختلاف بين المصاديق إنّما هو بلحاظ عالم الانطباقلا عالم الاستعمال، وليس الموصول مستعملاً في المصاديق حتّى يختلّ نظاموحدة السياق.
ألاترى أنّه إذا قيل: ما يؤكل وما يرى في قضيّة واحدة لا يوجب انحصارُأفراد الأوّل في الخارج ببعض الأفراد تخصيصَ الثاني أيضاً بذلك البعض.
وهذا الجواب متين وصحيح لا إشكال فيه.
الأمر الثاني: أنّه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعيّة، وهذيعني أنّ إرادة الفعل من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» يقيني، فإذا اُريد بهالحكم أيضاً لزم استعمال الموصول في معنيين، وهذا النحو من الاستعمال ممتنعكما قال به صاحب الكفاية قدسسره (1)، أو غير جائز.
وفيه: مضافاً إلى عدم امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ـ كما مرّتحقيقه في مباحث الألفاظ ـ أنّ الموصول في الحديث لم يستعمل في الفعل ولفي الحكم، بل استعمل في معنى واحد، وهو معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء.نعم، هذا المفهوم المبهم قد ينطبق على الفعل، وقد ينطبق على الحكم، وقدعرفت أنّ تعدّد المصاديق واختلافها لا يوجب تعدّد المعنى المستعمل فيه.
الأمر الثالث: أنّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمراً ثقيلاً، خصوصمع ملاحظة أنّ حديث الرفع قد ورد في مقام الامتنان، ومن الواضح أنّ الثقيل
- (1) كفاية الاُصول 2: 174 ـ 175.
(صفحه 237)
على المكلّف هو الفعل لا الحكم؛ إذ الحكم فعل صادر من المولى، فلا يعقلكونه ثقيلاً على المكلّف، وعليه فلابدّ من أن يراد من الموصول في جميعالفقرات الفعل لا الحكم.
وفيه: أنّ الثقيل وجود الفعل كما يتصوّر في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة،أو عدمه كما يتصوّر في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة، أو كلاهما، مع أنّ ثقلالفعل الواجب يكون بلحاظ وجوبه، ومعلوم أنّ الحكم هو السبب في وقوعالمكلّف في المشقّة وكلفة الفعل، ولذا سمّي الحكم بالتكليف.
الأمر الرابع: أنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي وإلى الفعل مجازي كما عرفت،فإنّ الفعل الاضطراري والإكراهي لا يكون مرفوعاً حقيقة، بعدما نرى تحقّقهكثيراً مّا في الخارج، فلا محالة يكون إسناد الرفع إلى هذه العناوين مجازياً،والمصحّح له هو رفع جميع الآثار.
وحينئذٍ فإذا اُريد بالموصول في جميع فقرات الفعل كان الإسناد في الجميعمجازيّاً، وأمّا إذا اُريد بالموصول في خصوص فقرة «ما لا يعلمون» الأعمّ منالفعل والحكم، فلابدّ من الالتزام بكون الإسناد فيها حقيقة بلحاظ الحكمالمجهول ومجازاً بلحاظ الفعل المجهول.
وفيه: أن الموصول في عامّة الفقرات قد استعمل في معناه المبهم المرادفلمفهوم الشيء. نعم، هذا المفهوم المبهم قد ينطبق على الفعل وقد ينطبق علىالحكم، وعليه فليس في الحديث إلاّ إسناد مجازي.
ولاتكون المجازيّة في فقرة «ما اُكرهوا عليه» بلحاظ انطباقه خارجاً علىالفعل وانحصار مصداقه فيه، بل تكون بلحاظ أنّ نفس عنوان «ما اُكرهوعليه» بالمعنى المبهم الموصولي لا يمكن أن تكون مرفوعة حقيقة، فإنّ معنىرفعه حقيقة أن لا يتحقّق المكره عليه في الخارج أصلاً، فيكون الرفع مجازيّاً،
(صفحه238)
والمصحّح لهذا الإسناد هو رفع جميع الآثار.
وعلى هذا لا يكون معنى عموميّة فقرة «ما لا يعلمون» للشبهاتالموضوعيّة والحكميّة بحيث يكون المستعمل فيه الشبهة الحكميّة والموضوعيّة،بل هو عبارة عن معنى المبهم الموصولي، وإسناد الرفع إلى نفس هذا العنوانمجازي، ولايكون «ما لا يعلمون» بهذا المعنى مرفوعاً حقيقة، فيصحّالاستدلال بهذه الفقرة في باب البراءة.
هذا تمام الكلام في المقام الثاني.
وأمّا المقام الثالث: ففي البحث عن الفقرات الاُخرى، والبحث عنها يقع فيجهات:
الاُولى: أنّ مقتضى الجمود على ظاهر الحديث هو تعلّق الرفع بنفس الخطوالنسيان بلحاظ آثارهما لا بما أخطأ وما نسي، ولكنّ مقتضى التحقيق هوتعلّق الرفع بما أخطأوا وما نسوا، كما هو الحال في بقية الفقرات من تعلّق الرفعفيها بالموصول، والدليل على ذلك اُمور:
الأوّل: ما ذكرناه سابقاً في المقام الأوّل من أنّ الحكم الثابت للشيءبالعناوين المذكورة لا يرفع بحديث الرفع، فلا يرفع وجوب سجدتي السهوالمترتّب على نسيان السجدة في الصلاة، ولا وجوب الدية المترتّب على قتلالخطأ، فلابدّ من تعلّق الرفع بما أخطأوا وما نسوا.
الأمر الثاني: ما مرّ في خبر البزنطي من قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «رفع عن اُمّتيما اُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما أخطأوا»، فالتصريح بما أخطأوا يبيّن لنا أنّالمراد من الخطأ والنسيان في حديث الرفع كذلك؛ لأنّ الأخبار يفسّر بعضهبعضاً كما هو واضح.
الأمر الثالث: استدلال الفقهاء على صحّة الصلاة المنسيّة فيها السجدة أو
(صفحه 239)
التشهّد بتطبيق الرفع على السجدة المنسيّة والتشهّد المنسي.
الجهة الثانية: في البحث عن فقرة «ما نسوا» فنقول: إنّ النسيان قد يتعلّقبالجزئيّة والشرطيّة، فيكون مساوقاً لنسيان الحكم الكلّي التكليفي؛ لأنّالجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة، وقد يتعلّق بنفس الجزء والشرطمع العلم بحكمهما، فيكون مساوقاً لنسيان الموضوع.
أمّا الأوّل فلا شكّ في صحّة العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط؛ لحديثالرفع، وذلك لحكومة حديث الرفع على أدلّة الأجزاء والشرائط، فيختصّوجوبهما بغير صورة النسيان، ومع الإتيان بالفاقد لهما يسقط التكليف ويكونمجزيّاً، وذلك لوحدة الأمر وانطباق عنوان المأمور به على الفاقد والواجد معاً.
توضيح ذلك: أنّ في مثل الصلاة يوجد أمر واحد قد تعلّق بعنوان الصلاة،كما في قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَوةَ»، ومن الواضح أنّه يشترك في هذا الأمرالحاضر والمسافر، والعالم والجاهل، والذاكر والناسي، وهكذا، وقد دلّت أدلّةالأجزاء والشرائط على جزئيّة اُمور أو شرطيّتها في الصلاة في جميع تلكالحالات، فيجب الإتيان بها في أيّ حال من الأحوال، إلاّ أنّه لمّا كان هناكملاك أقوى عند الجهل والنسيان حكم الشارع برفعها، فتكون النتيجة عدموجوب الأجزاء والشرائط عند عروض الجهل والنسيان، وهذا هو معنىالحكومة.
وأمّا الإجزاء وسقوط التكليف بالمأتي به الفاقد للجزء والشرط فلأنّالأجزاء والشرائط ليست واجبة بالوجوب الغيري أو الضمني كما هوالمشهور، بل هي واجبة بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ، أي الصلاة؛ إذ ليسالكلّ إلاّ نفس الأجزاء والشرائط، فالأمر الواحد المتعلّق بالصلاة يدعو إلىكلّ جزء وشرط بنفس دعوته إلى الصلاة بتمامها.