قد عرفت في الأبحاث السابقة جريان البراءة في الشبهات الحكميّة، وجوبيّةكانت أو تحريميّة، وأمّا جريانها في الشبهات الموضوعيّة فوقع محلاًّ للاختلاف،والحقّ في المسألة يحتاج إلى بسط في المقال، فنقول:
وأمّا إن كان التكليف تحريميّاً فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة،وعصيانه يتحقّق بإتيان جميع الأفراد. وأمّا الإتيان ببعض الأفراد دون بعض
فلم يكن عصياناً كما هو واضح.
القسم الثالث: أن يكون متعلّقاً بالطبيعة بنحو صرف الوجود، ونقصدبصرف الوجود أوّل وجود الطبيعة الناقض للعدم، لا أوّل فرد الطبيعة، ولذا لوأتى بأفراد متعدّدة دفعة واحدة صدق عليها أوّل وجود الطبيعة.
نعم، لو أتى بها تدريجاً فإنّما يتحقّق صرف الوجود بالفرد الأوّل الناقضللعدم، ومن هنا قالوا: إنّه لا تعدّد في صرف الوجود، وإنّما يتحقّق بأوّل وجودالطبيعة، سواء كان في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد دفعة واحدة.
ثمّ إن كان التكليف وجوبيّاً فيتحقّق الامتثال بأوّل وجود الطبيعة، سواءكان في ضمن فرد واحد أو أفراد متعدّدة دفعة واحدة، ويتحقّق عصيان الأمربترك جميع أفراد الطبيعة.
وأمّا إن كان التكليف تحريميّاً فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة،وعصيانه يتحقّق بإيجاد أوّل وجود الطبيعة، فيكون للنهي أيضاً إطاعةومعصية واحدة.
القسم الرابع: أن يكون متعلّقاً بالطبيعة بما هي، فإن كان التكليف وجوبيّيحصل الامتثال بإتيان فرد من أفراد الطبيعة؛ لأنّ وجود الطبيعي بوجود فردمنه، وعصيانه يكون بترك جميع الأفراد، إلاّ أنّه عصيان واحد لا أكثر، وإنكان التكليف تحريميّاً فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة.
إذا عرفت هذا فنقول:
أمّا القسم الأوّل: فالحقّ فيه جريان البراءة، سواء كانت الشبهة الموضوعيّةوجوبيّة أو تحريميّة، وذلك لأنّ التكليف لمّا كان يتعدّد بتعدّد أفراد الطبيعة فلوشكّ في كون شيء مصداقاً للطبيعة كان الشكّ في ثبوت الحكم للموضوع؛ إذلكلّ فرد من أفراد الطبيعة حكم مستقلّ في نفسه، ومن الواضح أنّ المرجع
(صفحه 289)
عند الشكّ في التكليف هو البراءة لا الاشتغال.
إن قلت: إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة ليس من جهة فقدان النصّ أوإجماله أو تعارض النصّين، وإنّما الشكّ نشأ من الاشتباه في الاُمور الخارجيّة،فليس من قبيل الشكّ في التكليف حتّى تشمله أدلّة البراءة، بل يكون منقبيل الشكّ في الامتثال، وهو مجرى قاعدة الاشتغال.
توضيح ذلك: أنّ أدلّة البراءة ـ شرعيّة كانت أو عقليّة ـ لا تجري في الشبهةالموضوعيّة؛ ضرورة أنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلاّ بيان الكبرياتوالأحكام الكلّية، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض، وإنّما الشكّفي الصغرى ومقام الامتثال، ومن الواضح أنّ المرجع في إزالة هذه الشبهة ليسهو الشارع، وعليه فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بداهة تحقّق البيانبصدور الحكم الكلّي وعلم المكلّف به، كما لا يجري مثل حديث الرفع؛ إذالحديث إنّما يرفع ما يكون وضعه بيد الشارع، وقد اتّضح أنّ ما يكون وضعهبيده هو جعل الحكم الكلّي وتبليغه لا غير، فالمتعيّن حينئذٍ هو الرجوع إلىقاعدة الاشتغال؛ لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.
قلت: صحيح أنّ وظيفة الشارع إنّما هو بيان الكبريات لا المصاديقالخارجيّة، إلاّ أنّ العقاب لا يصحّ إلاّ مع تماميّة الحجّة على العبد، ومن الواضحأنّ الحجّة إنّما تتمّ بتمام الصغرى والكبرى عند العبد؛ إذ الكبرى بما هي لا تنفعشيئاً في مورد من الموارد لولا انضمام الصغرى إليها.
والحاصل: أنّ عدم تماميّة الحجّة قد يكون من جهة عدم تماميّة الكبرى،وقد يكون من جهة عدم تماميّة الصغرى، ومع عدم تماميّة الحجّة تجري البراءةلقبح العقاب بلا بيان، أي بلا حجّة.
وأمّا القسم الثاني فالحقّ فيه هو التفصيل، بمعنى أنّه إن كان التكليف
(صفحه290)
وجوبيّاً وشككنا في مصداقيّة فرد للعام المجموعي، فالمرجع هو الاشتغال،فيجب الإتيان بالفرد المشكوك، فمثلاً: إذا قال المولى: «أكرم مجموع العلماء»وشككنا في عالميّة «زيد» يجب إكرامه؛ لأنّ ترك إكرامه والاكتفاء بإكرام منعلم كونه عالماً يوجب الشكّ في تحقّق عنوان المأمور به، وهو إكرام مجموعالعلماء من حيث المجموع، وعند الشكّ في المحصّل وانطباق المأمور به علىالمأتي به تجري قاعدة الاشتغال لا محالة، ومعلوم أنّ دوران الأمر بين الأقلّوالأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة يكون مجرى للاحتياط، فإنّاشتغال الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.
وأمّا إن كان التكليف تحريميّاً فلا إشكال في جريان البراءة، وذلك لجوازارتكاب بعض الأفراد المعلومة فضلاً عن الفرد المشكوك فيه؛ ضرورة أنّالمنهي عنه في هذا القسم هو ارتكاب المجموع من حيث المجموع، ومن الواضحأنّه مع ترك بعض الأفراد وارتكاب البعض الآخر يصدق أنّه لم يرتكبالمجموع من حيث المجموع، فلا يكون عاصياً، بل لو ترك فرداً واحداً منالطبيعة وارتكب باقي الأفراد بأجمعها يكون مطيعاً. نعم، لا يصحّ الاكتفاء ببقاءالفرد المشكوك الفرديّة؛ إذ لم يحرز ببقائه عدم تحقّق المنهي عنه.
وأمّا القسم الثالث فالحقّ فيه هو التفصيل أيضاً، ففي جانب الحكمالوجوبي لا يمكن الاكتفاء في مقام الامتثال بالفرد المشكوك، بل لابدّ منالإتيان بما هو متيقّن الفرديّة للطبيعة؛ إذ مع الشكّ في انطباق المأمور به علىالمأتي به يجري الاشتغال، وأمّا في جانب الحكم التحريمي فتجري البراءة فيالفرد المشكوك بلا إشكال، فلا يجب الاجتناب عنه؛ إذ الشكّ حينئذٍ ليسشكّاً في سقوط التكليف حتّى يكون مورداً للاشتغال، وإنّما هو شكّ في ثبوتالتكليف فتجري البراءة.