(صفحه 29)
ومنها: في من سلك طريقاً مظنون الضرر حيث ادّعي الإجماع أيضاً علىعصيانه ووجوب الإتمام عليه؛ لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدمالضرر، وهذا لا يتمّ أيضاً إلاّ بناءً على حرمة التجرّي.
هذا، ولكن يرد عليه: أوّلاً: أنّ الإجماع في الموردين المذكورين لم يتحقّق،وليس بإجماع محصّل، ولا اعتبار للإجماع المنقول، وعلى فرض كونه محصّليحتمل أن يكون مستند المجمعين عبارة عن الأدلّة الاُخرى، فلا فائدة فيالإجماع على فرض صحّتها، ولا محلّ للفرع على فرض عدم تماميّة الأصل.
وثانياً: أنّ كلاًّ من الموردين اللذين ادّعي عليهما الإجماع خارج عمّا نحنفيه وليس من موارد التجرّي، أمّا في الأوّل فلأنّ ظنّ الضيق يكون تمامالموضوع؛ لوجوب المبادرة بالصلاة شرعاً، فيكون الظنّ هنا موضوعيّاً ـ نظير«لا تشرب مقطوع الخمريّة» ـ لا طريقيّاً، ففي صورة المخالفة يتحقّق العصيان.
وهكذا في الثاني؛ إذ تكون للعلم بالضرر وما يقوم مقامه حتّى الاحتمالالعقلائي موضوعيّة للحكم، فلا محلّ هنا للتجرّي؛ لأنّ نفس الخوف موضوعللحرمة، كما أنّه مجوّز للإفطار في باب الصوم وإن انكشف الخلاف، فلايتمّالإجماع على حرمة التجرّي.
ويمكن أن يقال بحرمة التجرّي من طريق قبحه العقلي وانضمام قاعدة «كلّما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته».
وجوابه: أوّلاً: أنّ قبح التجرّي قبح فاعلي لا قبح فعلي كما ذكرناه.
وثانياً: على فرض كون القبح قبحاً فعليّاً ولكن مورد جريان قاعدةالملازمة المذكورة منحصر فيما كان حكم العقل في سلسلة المبادئ وعلل حكمالشرع، وفي رتبة متقدّمة عليه، وحكم العقل بقبح التجرّي هنا متأخّر عنحكم الشرع بمراتب، مع أنّ أصل قاعدة الملازمة محلّ كلام.
(صفحه30)
وذكر المحقّق النائيني قدسسره (1) طريقاً آخر لحرمة التجرّي وهو: أنّ الخطاباتالأوّليّة تعمّ صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته، ويندرج المتجرّي فيعموم الخطابات الشرعيّة حقيقةً، ببيان: أنّ التكليف لابدّ وأن يتعلّق بما يكونمقدوراً للمكلّف، والتكليف الذي له تعلّق بموضوع خارجي، كقوله:«لاتشرب الخمر» و«صلّ في الوقت» وإن كان وجوده الواقعي مشروطبوجود ذلك الموضوع من غير دخل للعلم والجهل في ذلك، إلاّ أنّ مجرّدالوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلّف وحركة إرادته نحوه، فإنّ الحركةوالانبعاث إنّما يكون بالوجود العلمي، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك، فالعلموإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقيّاً، إلاّ أنّه بالنسبة إلى الاختيار والإرادةوالانبعاث يكون موضوعيّاً، ومتعلّق التكليف إنّما يكون هو الاختياروالانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف، فيكون مفاد قوله:«لاتشرب الخمر» هو لا تختر شرب ما أحرزت أنّه خمرٌ، وهذا المعنى موجودفي كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته، فإنّه في صورة المخالفة قد تحقّقاختيار شرب ما اُحرز أنّه خمرٌ، والمصادفة والمخالفة ليست اختياريّة،فلا تصلح لأن يتعلّق بها التكليف، فالذي يصلح لأن يتعلّق به التكليف ليسإلاّ اختيار شرب ما أحرز أنّه خمر.
ثمّ قال: إنّ حاصل هذه الدعوى تتركّب من مقدّمتين:
الاُولى: دعوى أنّ متعلّق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة والاختيارنحو ما اُحرز أنّه من مصاديق الموضوع الذي تعلّق به التكليف الواقعي.
الثانية: دعوى أنّ الإحراز والعلم يكون موضوعاً على وجه الصفتيّة، بمعنىالاختيار والإرادة وإن كان طريقاً بالنسبة إلى الموضوع.
(صفحه 31)
ثمّ أشكل عليهما بقوله: ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدّمتين من المنع، أمّا فيالاُولى فلأنّ المتعلّق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار، لا نفس الإرادةوالاختيار، فإنّ الإرادة والاختيار تكون مغفولاً عنها حين الفعل ولا يلتفتالفاعل إليها فلا يصلح لأن يتعلّق التكليف بها، فإذا كان متعلّق التكليف هوالشرب المتعلّق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجرّي لم يتعلّق شربهبالخمر.
وأمّا في الثانية فلأنّ الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم لكن لا بما أنّه علموصورة حاصلة في النفس، بل بما أنّه محرز للمعلوم، فالعلم يكون بالنسبة إلىكلّ من الإرادة والخمر طريقاً، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدّماتوجود الداعي، حيث إنّه تعلّق الإرادة بفعل شيء بداعي أنّه الشيء الكذائي،وهذا الداعي ينشأ عن العلم به، فدخله في الإرادة إنّما يكون على وجهالطريقيّة والكاشفيّة عن المراد، لا على وجه الصفتيّة والموضوعيّة.
ولكنّ المحقّق العراقي قدسسره (1) استشكل على مجموعة مقالته بأنّ بعد الاعترافبأنّ الخمر بوجوده الواقعي كان شرطاً للتكليف، فضمّ المقدّمة الاُخرى ـ أيدخالة العلم به في الانبعاث والإرادة ـ لا ينتج إلاّ فعليّة التكليف في ظرفالعلم المصادف لا المطلق، فاستنتاج هذه النتيجة ـ أي كون مفاد قوله: «لتشرب الخمر»: لا تختر شرب ما أحرزت أنّه خمرٌ ـ ينافي دخل الخمريّةالواقعيّة في شرط التكليف.
كما أنّ في جعل الاختيار والانبعاث تحت التكليف مسامحة اُخرى؛ إذ هذهباصطلاحه من الطوارئ اللاحقة للتكليف، فيلحق بالانقسامات اللاّحقة.
مضافاً إلى أنّ التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون
(صفحه32)
المدعو إليه عنواناً في طول عنوان المعروض وإن كان العنوانان متّحدين ذاتومنشئاً، فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيداً؛ لأنّ الإرادةالناشئة عن التكليف معلول التكليف، فكيف يكون قيد موضوعه؟! فما توهّمفي دفع المقدّمة الاُولى مندفع بهذا الكلام؛ إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئةعن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه، فلا محيص من تجريدالمعروض عن الإرادة رأساً، كما لا يخفى على الناظر الدقيق، وحينئذٍ هذالبرهان شاهد خروج الإرادة عن حيّز التكليف لا جهة الغفلة، كيف؟ وكثيرمّا نلتفت إلى إرادتنا حين الامتثال كما في العبادات، خصوصاً عند الإخطار فيالنيّة.
مع أنّ شمول الخطابات للعاصي والمتجرّي ببيان المحقّق النائيني قدسسره مستلزمللغويّة بحث التجرّي، مضافاً إلى اشتمال بعضها للتعليل، مثل: «لا تشرب الخمرلأنّه مسكر»، ومن المعلوم أنّ المسكريّة من شأن الخمر الواقعي، ومضافاً إلىاعتقاد العدليّة بتبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد المتحقّقة في المتعلّق،ولاشكّ في تقوّمها بالواقعيّات لا بما قطع كونه خمراً ـ مثلاً ـ فلا طريق لإثباتالحرمة للتجرّي.
ثمّ إنّ المتجرّي بعدما لم يكن مشمولاً للخطابات الأوّليّة هل يمكن توجّهالخطاب إليه من الشارع باستناد القبح الفاعلي أم لا؟ وأشار المحقّق النائيني قدسسره إلى طريقين لإمكانه:
الأوّل: أن يقول: أيّها المتجرّي أو العالم المخالف علمه للواقع، يجب عليكالاجتناب عن معلوم الخمريّة.
ويرد عليه: أوّلاً: بأنّه لا يعقل؛ لأنّ الالتفات إلى العنوان الذي تعلّق بهالخطاب ممّا لابدّ منه، والمتجرّي لا يمكن أن يلتفت إلى أنّه متجرّ؛ لأنّه بمجرّد
(صفحه 33)
الالتفات يخرج عن كونه متجرّيّاً، فلا يمكن توجيه الخطاب على وجه يختصّبالقبح الفاعلي فقط.
وثانياً: أنّه لا موجب إلى هذا الاختصاص، فإنّ القبح الفاعلي مشترك بينالمصادفة للواقع والمخالفة، بل هو في صورة المصادفة أتمّ وأكمل، فلو كان القبحالفاعلي مناطاً للخطاب فلابدّ وأن يكون الخطاب على وجه يعمّ صورةالمصادفة والمخالفة.
ومن هنا أشار إلى الطريق الثاني بأن يتحقّق هنا مضافاً إلى الخطاب الأوّليالذي موضوعه العناوين الواقعيّة خطاب آخر على وجه يعمّ العاصيوالمتجرّي؛ بأن يقال: لا تشرب معلوم الخمريّة، ففي صورة إصابة القطعللواقع يتحقّق العصيان بالنسبة إلى الحكمين، وفي صورة عدم الإصابة يتحقّقالتجرّي بالنسبة إلى الخطاب الأوّل ويتحقّق العصيان بالنسبة إلى الخطابالثاني.
ثمّ استشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الخطاب على هذا الوجه لا يمكن، لا لمكان أنّالعلم لا يكون ملتفتاً إليه غالباً، فإنّ العلم عين الالتفات ولايحتاج إلى التفاتآخر، فلو لم يمكن أخذ العلم موضوعاً في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعلحكم آخر؟! فهذا لا يصلح أن يكون مانعاً لتوجيه الخطاب كذلك، كما ليصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلّق في صورة المخالفة لأن يكونمانعاً عن الخطاب بعدما كان القبح الفاعلي مناطاً للخطاب، بل المانع من ذلكهو لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائماً، وإن لم يلزم ذلك في الواقع؛ لأنّالنسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمريّة هي العموم من وجه وفيمادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان، إلاّ أنّهما بالنسبة إلى المتجرّي عامّ وخاصّمطلق، فإنّه يرى دائماً علمه مطابقاً للواقع، ففي مادّة الاجتماع إمّا يكون اجتماع