(صفحه312)
جنس التكليف فواضح، ونحن أيضا نقول به، ولكن لا أثر له بعد عدم كونالمكلّف قادرا على الامتثال، وإن كان المراد به هو عدم القصور بملاحظة النوعأيضا فنحن نمنع ذلك؛ لتحقّق كمال القصور فيه بعد ما كانت خصوصيّةالوجوب والحرمة مجهولة.
ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله : من أنّ مناط البراءة العقليّة قبح العقاببلابيان، وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب؛ لأنّ وجودالعلم الإجمالي كعدمه لايقتضي التنجيز والتأثير، فالقطع بالمؤمّن حاصلبنفسه بلاحاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلابيان(1).
وفيه: أنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لايحصل لو اُغمض النظرعن حكم العقل بقبح العقاب بلابيان، ومجرّد سقوط العلم الإجمالي عنالتنجيز والتأثير وصيرورة وجوده كعدمه لايفيد ما لم تنضّم إليه القاعدة، كيفولو فرض جواز العقوبة على خصوصيّة الوجوب مثلاً حتّى لو كانت مجهولةفمن أين يقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حينئذٍ ؟ فهذا القطع إنّما هو بملاحظةهذه القاعدة.
ومنها: ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله وملخّصه: أنّ مع حصول الترخيص فيالرتبة السابقة على جريان البراءة بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك ليبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقليّة والشرعيّة(2).
وفيه: أنّ الحكم بتأخّر رتبة أدلّة البراءة عن حكم العقل بالتخيير بين الفعلوالترك ممنوع جدّا، فإنّ الحكم بالتخيير إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب علىخصوصيّة الوجوب والحرمة؛ لأنّه لو فرض إمكان العقوبة على التكليف
- (1) فوائد الاُصول 3: 448.
- (2) نهاية الأفكار 3: 293.
(صفحه 313)
الوجوبي ـ مثلاً ـ وإن كان مجهولاً لايحكم العقل بالتخيير، فحكمه به إنّما هوبعد ملاحظة عدم ثبوت البيان على الخصوصيّة وعدم جواز العقوبة عليها كمعرفت.
فمبنى أصالة التخيير عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلابيان؛ إذ التخيير هوحكم العقل بجواز الفعل والترك، فإذا اختار أحدهما وكان مخالفا للواقع فليترتّب عليه العقاب بمقتضى القاعدة المذكورة، كما لا يخفى.
(صفحه314)
(صفحه 315)
جريان البراءة الشرعيّة في دوران الأمر بين المحذورين
عرفت أنّ لسان أدلّة البراءة الشرعيّة مختلف، فقد يكون بلسان الرفع، وقديكون بلسان الإثبات مثل: قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لكحلال»(1)، ويعبّر عن البراءة المستفادة منه بأصالة الإباحة، أمّا على الأوّلفالظاهر ـ بعد ملاحظة ما ذكرنا في وجه جريان البراءة العقليّة ـ جريانهأيضا؛ لأنّ التكليف بنوعه مجهول، فيشمله مثل حديث الرفع.
ولكنّ المحقّق النائيني رحمهالله نفى جريانها؛ نظرا إلى أنّ مدركها قوله صلىاللهعليهوآله : «رُفع ملا يعلمون»(2)، والرفع فرع إمكان الوضع، وفي المقام لايمكن وضع الوجوبوالحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير، ومع عدم إمكانالوضع لايعقل الرفع، فأدلّة البراءة الشرعيّة لاتعمّ المقام أيضا(3).
جوابه: أنّ في دوران الأمر بين المحذورين يتمسّك بحديث الرفع مرّتين، مرّةًلرفع الوجوب المجهول، واُخرى لرفع الحرمة المجهولة، ومن الواضح أنّ وضعالوجوب بنفسه ممكن، كما أنّ وضع الحرمة لا استحالة فيه. نعم، ما لايمكنوضعه هو مجموع الوجوب والحرمة، وهو لايكون مفاد حديث الرفع، فم
- (1) وسائل الشيعة 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 5: 369، أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
- (3) فوائد الاُصول 3: 448.
(صفحه316)
يمكن وضعه يشمله الحديث، وما لايشمله الحديث لايمكن وضعه.
وأمّا على الثاني فقد استدلّ المحقّق النائيني رحمهالله لعدم جريانها هنا باُمور:
الأوّل: عدم شمول دليل أصالة الإباحة لصورة دوران الأمر بين المحذورين،فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الحلّ، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «كلّشيءٍ فيه حلالٌ وحرام فهو لك حلال»، وليس في هذا الباب احتمال الإباحةوالحلّ، بل الطرف هو الوجوب.
الثاني: أنّ دليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا يعمّالشبهات الحكميّة.
الثالث: أنّ جعل الإباحة الظاهريّة مع العلم بجنس الإلزام لايمكن، فإنّأصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال؛ لأنّ مفاد أصالةالإباحة الرخصة في الفعل والترك، وهذا يناقض العلم بالإلزام وإن لميكن لهذالعلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لايقتضي التنجيز، إلاّ أنّه حاصلبالوجدان ولا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا(1). إنتهى.
والإشكال عليه من وجوه:
الأوّل: منع ما ذكره في الأمر الثاني من اختصاص دليل أصالة الحلّبالشبهات الموضوعيّة، فإنّه قد مرّ عدم الاختصاص.
الثاني: أنّ ظاهر كلامه اتّحاد أصالة الحلّ مع أصالة الإباحة، مع أنّ معنىالإباحة تساوي الفعل والترك، ومعنى الحلّيّة عدم كون فعله محرّما وممنوعا،فالحلّيّة تغاير الإباحة، ومادلّت عليه النصوص والروايات(2) هو أصالة الحلّلا الإباحة، فإنّه لميرد في شيء منها الحكم بإباحة مشكوك الحرمة أصلاً،
- (1) فوائد الاُصول 3: 445.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 3.