(صفحه 319)
عدم جريان الاستصحاب في الدوران بين المحذورين
هل يجري استصحاب عدم الوجوب بلحاظ مسبوقيّته بالعدم، وهكذاستصحاب عدم الحرمة، أم لا؟
ومحصّل ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في وجه عدم جريانه هنا: أنّه لمّا كانالاستصحاب من الاُصول التنزيليّة ـ أي تنزيل مفاده منزلة الواقع والالتزامبأنّه هو الواقع ـ فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي؛ فإنّ البناء علىعدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا ـ كما هو مفاد الاستصحابين ـ لايجتمعمع العلم بوجوب الفعل أو حرمته.
وإن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقةالالتزاميّة، فإنّ التصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميّا لايجتمعمع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا(1). إنتهى.
وفيه: أوّلاً: منع كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليّة بهذا المعنى، فإنّهليس في شيء من أدلّته ما يدلّ أو يشعر بذلك، إلاّ ما في صحيحة زرارة الثالثةمن قوله عليهالسلام : «فيبني عليه»، ولكن لا يخفى أنّ المراد بالبناء على المتيقّن هوالبناء العملي لا البناء القلبي على أنّ الواقع أيضا كذلك حتّى ينافي الموافقةالالتزاميّة.
- (1) فوائد الاُصول 3: 449.
(صفحه320)
وثانيا: أنّه على فرض تسليم كونه من الاُصول التنزيليّة يمنع لزوم الموافقةالالتزاميّة في الأحكام زائدا على الموافقة العمليّة، كما مرّ في مبحث القطع أنّلكلّ تكليف مخالفة واحدة وموافقة واحدة، فلا بأس بجريان الاستصحابينوالبناء العملي على طبقهما، ولا منافاة بينهما وبين العلم الإجمالي بالوجوب أوالحرمة أصلاً؛ لما مرّ في أصالة الإباحة من إمكان الجمع بينهما كالجمع بينالحكم الظاهري والواقعي.
ولكنّ التحقيق: أنّ وجه عدم جريان الاُصول العمليّة في أطراف العلمالإجمالي هو لزوم التناقض في أدلّة الاُصول، فإنّ دليل الاستصحاب ـ مثلاً متضمّن للحكم الإيجابي والحكم السلبي، كقوله عليهالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّولكن انقضه بيقين آخر»، ومعناه أنّه إذا تحقّق يقين على خلاف اليقين السابقفاللازم الأخذ والتشبّث باليقين الفعلي وجريان الاستصحاب في الوجوبوالحرمة، ونفيهما معا هنا مناقض للعلم واليقين بنقض اليقين السابق، إمّبالوجوب وإمّا بالحرمة في الزمان اللاحق، فعدم جريان الاستصحاب في منحن فيه مستند إلى ذلك لا إلى لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة؛ لعدم إمكانتحقّقها هنا.
هذا كلّه مع كون تساوي الطرفين من حيث المزيّة والترجيح.
(صفحه 321)
اختلاف المحذورين من حيث الأهمّيّة مع وحدة الواقعة
أمّا لو كان لأحد الطرفين مزيّة محتملة أو البراءة محقّقة فلا إشكال فيوجوب الأخذ به لو كانت المزيّة والأهمّيّة بمثابة تمنع من جريان البراءة حتّىفي الشبهات البدويّة، كما في دوران الأمر بين كون الشخص الموجود في البيننبيّا يجب حفظه أو سابّ نبيّ مهدور الدم، وكما في دوران امرأة بين كونهزوجته التي حلف على وطئها أو اُمّه، وكما في غيرها من الموارد.
وأمّا لو لم تكن المزيّة بهذه المثابة فهل يستقلّ العقل بتعيّنه كما هو الحال فيدوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير المقام ـ كما نفى عنه البُعد فيالكفاية(1) ـ أو لايستقلّ بذلك، بل يحكم بالتخيير أيضا؟
والتحقيق: هو الثاني فإنّ حكم العقل بالاحتياط والأخذ بالمعيّن في دورانالأمر بين التعيين والتخيير ليس قابلاً للإنكار، إلاّ أنّ ما نحن فيه لايكون منمصاديق تلك المسألة؛ لأنّ مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو ما إذكان التكليف بنوعه معلوما، غاية الأمر أنّه شكّ في خصوصيّاته، وأنّه علىنحو التعيين أو على سبيل التخيير، وحينئذٍ فيمكن أن يقال: بأنّ مقتضى الشكّفي السقوط بعد الإتيان بالعدل الآخر هو وجوب الاحتياط بالإتيان بميحتمل تعيّنه.
- (1) كفاية الاُصول 2: 207.
(صفحه322)
وأمّا في المقام فلا يتحقّق التكليف المنجّز اللازم امتثاله حتّى نشكّ فيسقوطه بالإتيان بفاقد المزيّة ونقول: مقتضى قاعدة الاشتغال بقاؤه ووجوبالخروج عن عهدته بالإتيان بواجد المزيّة، فمع عدم التكليف لايبقى مجاللوجوب الأخذ بذي المزيّة المحقّقة أو المحتملة، كما لا يخفى، فتجري هنا أصالةالتخيير العقلي.
هذا كلّه إذا كانت الواقعة واحدة.
(صفحه 323)
في تعدّد الوقائع المقتضي لتعدّد التكليف
وأمّا إذا كانت الواقعة متعدّدة فلا إشكال في ثبوت التخيير فيها أيضا، لكنهل التخيير بدوي أو استمراري؟ المسألة اختلافيّة.
ومنشأ الخلاف: أنّ العلم الإجمالي في واقعة من الوقائع المتعدّدة وإنلميمكنمخالفته قطعا ولا مخالفته كذلك، ولذا يحكم العقل بالتخيير، إلاّ أنّ هنا علمينإجماليّين آخرين، لهما موافقة قطعيّة ومخالفة قطعيّة؛ فإنّ العلم الإجماليبوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها وإن لميكن في خصوص يوم واحد لهموافقة ولا مخالفة له، إلاّ أنّه يتولّد منه علم إجمالي بوجوب صلاة الجمعة فيهذه الجمعة أو حرمتها في جمعة اُخرى، وكذا علم إجمالي بحرمتها في هذهالجمعة ووجوبها في اُخرى، فإنّ من يعلم إجمالاً بوجوب صلاة الجمعة في كلّجمعة أو حرمتها فيه يعلم أيضا إجمالاً بوجوبها في هذه الجمعة أو حرمتها فيالاُخرى، وكذا بحرمتها فيها أو وجوبها في الاُخرى، وهذان العلمان لهما موافقةقطعيّة ومخالفة قطعيّة، غاية الأمر أنّ الموافقة القطعيّة في أحدهما هي عينالمخالفة القطعيّة بالنسبة إلى الآخر، فإنّ من يصلّي الجمعة في جمعة ويتركها فيجمعة اُخرى وافق العلم الإجمالي الأوّل قطعا، وخالف الثاني أيضا كذلك؛لكونهما متلازمين.
وحينئذٍ فإن قلنا بثبوت الترجيح وأنّ المخالفة القطعيّة لها مزيّة على الموافقة