(صفحه344)
والحاصل: أنّ أدلّة الاستصحاب تجري في المقام ولا يلزم التناقض أصلاً.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمهالله فصّل بين الاُصول التنزيليّة ـ كالاستصحاب وغيرها ـ كأصالة الإباحة ـ وحكم بجريان الاُولى مطلقا في أطراف العلمالإجمالي، من غيرفرق بين أن يلزم من جريان الأصلين مخالفة عمليّة أم لا،وبعدم جريان الثانية إذا لزم من جريانها مخالفة عمليّة قطعيّة للتكليف المعلومفي البين.
وقال في وجه ذلك ما ملخّصه: إنّ المجعول في الاُصول التنزيليّة إنّما هوالبناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع، وإلغاء الطرفالآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع، فإنّ ظاهر قوله عليهالسلام : «لاتنقضاليقين بالشكّ» هو البناء العملي على بقاء المتيقّن وتنزيل حال الشكّمنزلةحال اليقين، وهذا المعنى لايمكن جعله بالنسبة إلى جميع الأطراف في العلمالإجمالي؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، فإنّ الإحرازالتعبّدي لايجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف، وهذا لافرق فيه بين أن يلزممن جريان الاستصحابين مخالفة عمليّة أم لا؛ لعدم إمكان الجعل ثبوتا.
وأمّا الاُصول الغير التنزيليّة فلا مانع من جريانها إلاّ المخالفة العمليّةللتكليف المعلوم في البين، فهي لاتجري إن لزم من جريانها ذلك، وتجري إن لميلزم(1)، إنتهى ملخّصا.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليّة بالمعنى الذيأفاده محلّ نظر، بل منع، فإنّ الكبرى المجعولة في أدلّته ليست إلاّ حرمة نقضاليقين بالشكّ، وظاهرها هو وجوب ترتيب آثار المتيقّن في ظرف الشكّ،وتطبيق عمله على عمل المتيقّن.
- (1) فوائد الاُصول 4: 14 ـ 17.
(صفحه 345)
وأمّا البناء على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشكّ كالعدم فليستفاد من شيء من الأخبار الواردة في الاستصحاب، كيف واعتبار إلغاءالشكّ وجعله كالعدم في عالم التشريع لايجتمع مع اعتباره في الصغرىبقوله عليهالسلام : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»؟ فلا يظهر من أخبارالاستصحاب إلاّ مجرّد ترتيب آثار الواقع في مقام العمل، لا الأخذ بالطرفالموافق للحالة السابقة بما أنّه هو الواقع.
وثانيا: لو سلّم كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليّة فلا نسلّم عدمجريانه في أطراف العلم الإجمالي، فإنّ كلاًّ منها مشكوك فيه مسبوق بالحالةالسابقة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.
وما أفاده من أنّ الإحراز التعبّدي لايجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلافممنوع؛ لعدم الدليل على عدم إمكان الاجتماع، فإنّ للشارع في عالم التشريع أنيتعبّدنا بترتيب آثار الوجود على ما ليس بموجود، أو بترتيب آثار الميّت علىمن ليس بميّت كما في المرتدّ الفطري، وأن يتعبّدنا بالتفكيك بين المتلازمينالشرعيّين، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائع مردّد بين البولوالماء؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الإجمالي بعدمبقاء الواقع في أحدهما؛ لأنّه إن كان المائع ماءً فقد ارتفع الحدث، وإن كان بولفقد تنجّس البدن، فالتعبّد بالجمع بينهما ممكن.
وهكذا التفكيك بين المتلازمين العاديّين؛ فإنّ استصحاب حياة زيد وعدمنبات لحيته ينافي العلم العادي بمخالفة أحدهما للواقع؛ للملازمة بين الحياةوالنبات، وهكذا التفكيك بين المتلازمين العقليّين كالتعبّد ببقاء الكلّي وعدمترتيب آثار الفرد الطويل، مع أنّ بقاء الكلّي ملازم عقلاً مع تحقّق الفرد الطويلونحو ذلك، كما أنّه يستفاد من ذيل كلامه الالتفات إلى ذلك، ففي عالم التعبّد
(صفحه346)
لامانع من الترخيص والتعبّد بخلاف العلم الإجمالي.
وأجاب عن هذا الإشكال بما ملخّصه: أنّه تارةً يلزم من التعبّد بمؤدّىالأصلين العلم التفصيلي بكذب مايؤدّيان إليه؛ لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلمتفصيلاً ثبوته، أو على ثبوت ما يعلم تفصيلاً نفيه، كما في استصحاب نجاسةالإنائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته، فإنّ الاستصحابينيتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلاً من طهارة أحدهما أو نجاسته.
واُخرى لايلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيانإليه، بل يعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقان فيثبوت ما علم تفصيلاً نفيه، أو نفي ما علم تفصيلاً ثبوته، بل لايحصل من التعبّدبمؤدّى الأصلين إلاّ العلم بمخالفة أحدهما للواقع، كما في الاُصول الجارية فيالموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيّين أو العقليّين أوالعاديّين. والفرق بين القسمين ممّا لا يكاد يخفى، والذي منع من جريانه فيأطراف العلم الإجمالي هو الأوّل، وأمّا الثاني فلا محذور فيه أصلاً؛ لأنّ التلازمبحسب الواقع لايلازم التلازم بحسب الظاهر(1). إنتهى.
والجواب عنه: أوّلاً بالنقض بما إذا علم بجنس التكليف، ودار الأمر بينوجوب شيء وحرمة شيء آخر، مع كونهما مسبوقين بالعدم، فيكونالأصلان متخالفين، فإنّ أصل عدم الوجوب يخالف أصالة عدم الحرمة، وليكون بينهما توافق كما هو واضح، وحينئذ فيصير من قبيل القسم الثاني، معأنّه لايلتزم بالجريان في هذه الصورة.
وثانيا: أنّ الفرق بين القسمين ليس بواضح؛ لأنّ جريان الاستصحاب فيالقسم الأوّل في كلّ واحد من الإنائين لاينافي العلم بالطهارة أو النجاسة، ول
- (1) فوائد الاُصول 4: 694 ـ 695.
(صفحه 347)
يكون المجموع من حيث هو مجموع موردا لجريان الاستصحاب حتّى يكونمنافيا للعلم التفصيلي بالخلاف، بل مورده كلّ واحد منهما بالخصوص، ولينافي شيء من الأصلين للعلم الإجمالي، غاية الأمر أنّه بعد جريانهما يقطعبكذب أحدهما؛ للعلم الإجمالي بالطهارة أو النجاسة، فلم يظهر فرق بينه وبينالقسم الثاني.
ومجرّد توافق الأصلين في الأوّل وتخالفهما في الثاني لايوجب الفرق بينهمبعد كون الأوّل أيضا مصداقين لحرمة النقض بالشكّ لا مصداقا واحدا.
والحاصل: أنّ المعلوم بالإجمال إن كان تكليفا فعليّا حتميّا لايرضى المولىبتركه بأيّ وجه من الوجوه يكون العلم الإجمالي فيه علّة تامّة لحرمة المخالفةالقطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة بمقتضى حكم العقل، فلا يمكن الترخيص منالمولى في هذا المورد، وأمّا إن كان التكليف الفعلي المستفاد من الإطلاق أوالعموم أو الدليل المعتبر أو الأمارة المعتبرة، فيكون العلم الإجمالي فيه علّةتامّة لحرمة المخالفة القطعيّة بنظر العرف والعقلاء، ولا يجوز الترخيص في جميعالأطراف عندهم، بخلاف نظر العقل؛ إذ لا مانع عقلاً من الترخيص فيه.
ورفع اليد عن التكليف لمصلحة التسهيل على العباد ـ مثلاً ـ كما فيالشبهات البدويّة. هذا كلّه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة.
(صفحه348)
الموافقة القطعيّة
أمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة فهل يكون العلم الإجمالي مقتضيله أو علّة تامّة له عند العرف والعقلاء؟ وبعبارة اُخرى: هل يجوز الترخيصفي بعض الأطراف عرفا بعد جواز ارتكاب الجميع عقلاً أم لا؟ والظاهر أنّه لمانع منه عند العقلاء أيضا؛ لعدم كونه ترخيصا في المعصية، إنّما الكلام في أنّههل يوجد دليل يمكن أن يستفاد منه الترخيص في بعض الأطراف أم لا؟
فنقول: قد عرفت أنّ ما يمكن الاستدلال به للترخيص هو خصوصصحيحة عبداللّه بن سنان المتقدّمة، وأمّا غيرها من الروايات فلا يصحّ الاعتمادعليها بعد وجود الخلل في متنها أو سندها، وأمّا الصحيحة فقد عرفت أنّهتشمل صورة العلم الإجمالي بناء على كون المراد من الشيء المأخوذ فيها هومجموع الشيئين اللذين أحدهما حلال والآخر حرام، فهي تدلّ على حلّيّة ذلكالشيء ـ أي المجموع ـ وحيث إنّها غير قابلة للأخذ بمضمونها؛ لدلالتها علىالإذن في المعصية بحسب متفاهم العرف والعقلاء، فلابدّ من رفع اليد عنها،وليس هنا شيء آخر يدلّ على حلّيّة بعض الأطراف.
نعم، لو كان الدليل دالاًّ على حلّيّة كلّ مشتبه لكان للبحث في دلالته علىالترخيص في بعض الأطراف مجال، ولكنّه لم يدلّ دليل معتبر على ذلك عدرواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة التي عرفت عدم صحة الاعتماد عليها؛