العقل وجوبا تخييرا مع عدم وجود الأهمّ في البين.
وفي المقام نقول: إنّ الأدلّة المرخّصة وإن اختصّ حكمها بغير صورة العلمالإجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الإذن في المعصية إلاّ أنّ وجود ملاك الإباحةفي كلّ مشتبه يستكشف من إطلاق المادّة، وبعد تعذّر الجري على طبق الملاكفي كلّ طرف من الأطراف يستكشف أنّ البعض على سبيل التخيير مرخّصفيه، حيث لاترجيح للبعض المعيّن(1). إنتهى.
ويرد عليه ما أورده عليه المحقّق الحائري رحمهالله من أنّ حكم العقل بذلك إنّميكون فيما يقطع بأنّ الجري على طبق أحد الاقتضائين لا مانع منه، كما في مثالالغريقين، وأمّا فيما نحن فيه فكما أنّ الشكّ يقتضي الترخيص كذلك العلمالإجمالي يوجب مراعاة الواقع ويقتضي الاحتياط، ولعلّ اقتضاء العلم يكونأقوى في نظر الشارع، فلا يقطع به العقل كما هو واضح(2).
ومنها: ما أورده المحقّق النائيني رحمهالله على نفسه بعد الحكم بسقوط الاُصولبالنسبة إلى جميع الأطراف وملخّص ما ذكره: أنّ نسبة الاُصول إلى كلّ واحدمن الأطراف وإن كانت على حدّ سواء، إلاّ أنّ ذلك لايقتضي سقوطها جميعا،بل غاية مايقتضيه هو التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين؛ لأنّه بناءعلى شمول أدلّة الاُصول لأطراف العلم الإجمالي يكون حال الاُصول العمليّةحال الأمارات على القول بالسببيّة، والتخيير في باب الأمارات المتعارضة إنّمهو كالتخيير في باب المتزاحمين.
وحينئذ لابدّ إمّا من تقييد إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّى كلّ من الأمارتينبحال عدم العمل بالاُخرى إن لميكن أحد المؤدّيين أهمّ، وإمّا من سقوط
الأمرين واستكشاف العقل حكما تخييريا لأجل وجود الملاك التامّ، في متعلّقكلّ من الأمارتين على المسلكين في باب التزاحم، والظاهر هو المسلك الأوّل؛لأنّ منشأ التزاحم إنّما هو عدم القدرة على الجمع بينهما، والمقتضي لإيجابالجمع إنّما هو إطلاق كلّ من الخطابين، فلابدّ من رفع اليد عنه؛ لأنّه الذيأوجب التزاحم، والضرورات تتقدّر بقدرها.
ونقول في المقام: إنّ حجّيّة كلّ أصل عملي إنّما تكون مطلقة بالنسبة إلىماعداه من سائر الاُصول؛ لإطلاق دليل اعتباره، وهذا الإطلاق محفوظ فيالشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريان الاُصول فيالأطراف مخالفة عمليّة.
وأمّا إذا لزم فلا يمكن بقاء إطلاق الحجّيّة لكلّ من الاُصول الجارية في جميعالأطراف؛ لأنّ بقاء الإطلاق يقتضي صحّة جريانها في جميع الأطراف،والمفروض أنّه يسلتزم المخالفة العمليّة، فلابدّ من رفع اليد عن إطلاق الحجّيّة،ونتيجة التقييد هو التخيير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأسا، كملا يخفى(1).
ثم أجاب المحقّق النائيني رحمهالله عن هذا الوجه الذي أورده على نفسه بكلامطويل، وملخّصه: أنّ الموارد التي يحكم فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليهبالخصوص لاتخلو عن أحد أمرين:
أحدهما: اقتضاء الكاشف والدليل الدالّ على الحكم التخيير في العمل.
ثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك، وإن كان الدليل يقتضى التعيّنيّة.
فمن الأوّل ما إذا ورد عامّ كقوله: «أكرم العلماء» وعلم بخروج زيد وعمروعن العامّ، ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على نحو الإطلاق أو أنّ خروج
- (1) فوائد الاُصول 4: 25 ـ 27.
(صفحه352)
كلّ منهما مشروط بحال عدم إكرام الآخر؟
وبعبارة أوضح: دار الأمر بين أن يكون التخصيص أفراديّا وأحواليّا معأو أحواليّا فقط، والوظيفة في هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحدهما؛ لأنّمرجع الشكّ في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء، ولا بدّ منالاقتصار على المتيقّن خروجه، وهو التخصيص الأحوالي فقط، فلا محيصعن القول بالتخيير، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّبضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن، وليس التخيير فيه لأجلاقتضاء المجعول له، بل المجعول في كلّ من العام والخاصّ هو الحكم التعييني،فالتخيير إنّما نشأ من ناحية الدليل.
ومن الثاني المتزاحمان في مقام الامتثال، فإنّ التخيير فيهما إنّما هو لأجل أنّالمجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين؛ لأنّهيعتبر عقلاً فيها القدرة على الامتثال، وحيث لاتكون القدرة محفوظة في كليهمفالعقل يستقلّ بالتخيير، والفرق بين التخيير في هذا القسم والتخيير في القسمالأوّل أنّ التخيير هناك ظاهري وهنا واقعي.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القول بالتخيير في باب الاُصول لا شاهد عليه،لا من ناحية الدليل والكاشف، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
أمّا انتفاء الأوّل فواضح، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الاُصول العمليّة إنّميقتضي جريانه عينا، سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه.
وأمّا انتفاء الثاني فلأنّ المجعول في باب الاُصول العمليّة ليس إلاّ الحكمبتطبيق العمل على مؤدّى الأصل بما أنّه الواقع، أو لا بما أنّه كذلك علىاختلاف الاُصول، ولكنّ الحكم بذلك ليس على إطلاقه، بل مع انحفاظ رتبةالحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة، وهي: الجهل بالواقع، وإمكان الحكم