(صفحه352)
كلّ منهما مشروط بحال عدم إكرام الآخر؟
وبعبارة أوضح: دار الأمر بين أن يكون التخصيص أفراديّا وأحواليّا معأو أحواليّا فقط، والوظيفة في هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحدهما؛ لأنّمرجع الشكّ في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء، ولا بدّ منالاقتصار على المتيقّن خروجه، وهو التخصيص الأحوالي فقط، فلا محيصعن القول بالتخيير، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّبضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن، وليس التخيير فيه لأجلاقتضاء المجعول له، بل المجعول في كلّ من العام والخاصّ هو الحكم التعييني،فالتخيير إنّما نشأ من ناحية الدليل.
ومن الثاني المتزاحمان في مقام الامتثال، فإنّ التخيير فيهما إنّما هو لأجل أنّالمجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين؛ لأنّهيعتبر عقلاً فيها القدرة على الامتثال، وحيث لاتكون القدرة محفوظة في كليهمفالعقل يستقلّ بالتخيير، والفرق بين التخيير في هذا القسم والتخيير في القسمالأوّل أنّ التخيير هناك ظاهري وهنا واقعي.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القول بالتخيير في باب الاُصول لا شاهد عليه،لا من ناحية الدليل والكاشف، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
أمّا انتفاء الأوّل فواضح، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الاُصول العمليّة إنّميقتضي جريانه عينا، سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه.
وأمّا انتفاء الثاني فلأنّ المجعول في باب الاُصول العمليّة ليس إلاّ الحكمبتطبيق العمل على مؤدّى الأصل بما أنّه الواقع، أو لا بما أنّه كذلك علىاختلاف الاُصول، ولكنّ الحكم بذلك ليس على إطلاقه، بل مع انحفاظ رتبةالحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة، وهي: الجهل بالواقع، وإمكان الحكم
(صفحه 353)
على المؤدّى بأنّه الواقع، وعدم لزوم المخالفة العمليّة، وحيث إنّه يلزم منجريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عمليّة فلا يمكن جعلها جمعا،وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الإمكان، إلاّ أنّه لا دليلعليه، لا من ناحية أدلّة الاُصول، ولا من ناحية المجعول فيها(1). إنتهى.
ويرد عليه ـ كما ذكر اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله ـ عدّة إيرادات:
منها: أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيير في القسم الأوّل إنّما هو من ناحية الدليلوالكاشف لا المجعول والمنكشف؛ لأنّ في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكمالتعييني ـ محلّ نظر، بل منع؛ ضرورة أنّه لو كان الحكم المجعول في الخاصّحكما تعيينيا ـ أي خروج زيد وعمرو في المثال عن العامّ في جميع الحالات وعلم ذلك لم يكن مجال للتخيير ـ بمعنى التخصيص الأحوالي، وهو خروج كلّواحد منهما مقيّدا بدخول الآخر ـ لأنّه مساوق للعلم بكون التخصيصأحواليّا وأفراديّا معا؛ لوضوح أنّه لو كان التخصيص أحواليّا فقط وكانخروج كلّ من الفردين مشروطا بدخول الآخر يكون الحكم المجعول حكمتخييريّا.
وبالجملة، فالّذي أوجب الحكم بالتخيير هو تردّد المجعول في الخاصّ بينكونه تعيينيّا أو تخييريّا بضميمة وجوب الاقتصار في التخصيص على القدرالمتيقّن، فالتخيير إنّما هو مقتضى تردّد المجعول بضميمة ما ذكر، كما لا يخفى، وليكون ناشئا من الدليل.
ومنها: أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيير في القسم الثاني إنّما هو من ناحيةالمدلول والمنكشف ـ محلّ منع؛ إذ التخيير فيه إنّما هو كالتخيير في القسم الأوّل؛لأنّ التخيير فيه إنّما يكون منشؤه إطلاق مثل قوله: «انقذ كلّ غريق» بضميمة
- (1) فوائد الاُصول 4: 28 ـ 31.
(صفحه354)
التخصيص بالنسبة إلى صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافة إلى الغريقين معلزوم الاقتصار في مقام التخصيص على القدر المتيقّن، وهو الخروج الأحواليفقط الذي مرجعه إلى رفع اليد عن الإطلاق، لا الأفرادي والأحوالي معالذي مرجعه إلى رفع اليد عن العموم.
وبالجملة، فلا فرق بين القسمين إلاّ في أنّ الحاكم بالتخصيص في القسمالأوّل هو الدليل اللفظي، وفي القسم الثاني هو الدليل العقلي، وهو لا يوجبالفرق بين التخييرين من حيث المقتضي، كما لا يخفى.
ومنها: أنّه لو سلّم جميع ما ذكر فنمنع ما ذكره ـ من عدم كون التخيير فيباب الاُصول العمليّة من ناحية الدليل والكاشف؛ لأنّ لنا أن نقول بأنّالتخيير فيها من جهة الدليل والكاشف؛ لأنّ أدلّة أصالة الحلّ تشمل بعمومهأطراف العلم الإجمالي أيضا، غاية الأمر أنّها خصّصت بالنسبة إليها قطعا،ولكن أمر المخصّص دائر بين أن يكون مقتضاه خروج الأطراف مطلقا حتّىيلزم الخروج الأفرادي والأحوالي معا، وبين أن يكون مقتضيا لخروج كلّواحد منها مشروطا بدخول الآخر، فهذا الإجمال بضميمة لزوم الاقتصارعلى القدر المتيقّن في مقام التخصيص أوجب التخيير، كما هو واضح.
ومنها: ـ وهو العمدة ـ : أنّ ما ذكره ـ من عدم كون التخيير في باب الاُصولمن مقتضيات المجعول والمنكشف ـ ممنوع جدّا؛ ضرورة أنّ المقام إنّما هو منقبيل المتزاحمين، كما أنّ فيهما يكون الملاك في كلّ فرد موجودا، فكذلك الملاكلجريان أصل الإباحة في كلّ من الأطراف موجود قطعا، وكما أنّ المانع العقليهناك بضميمة اقتضاء كلّ من المتزاحمين صرف القدرة إلى نفسه يوجبالحكم بالتخيير إمّا لتقييد الإطلاق، وإمّا لسقوط الخطابين واستكشاف العقلحكما تخييريا، كذلك المانع العقلي هنا، وهو لزوم المخالفة القطعيّة بضميمة
(صفحه 355)
اقتضاء كلّ من الأصلين لإثبات حكم متعلّقه يوجب التخيير قطعا.
فالعمدة في الجواب ما ذكرنا من أنّه ليس هنا ما يدلّ على جريان أصلالحلّيّة في كلّ واحد من الأطراف، بل مجراه هو مجموعها، أي المختلط منالحلال والحرام بمقتضى قوله: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» فيصحيحة عبداللّه بن سنان، وجريانه فيه مستلزم للمخالفة القطعيّة كما مرّ.
والحاصل: أنّ أطراف العلم الإجمالي لايكون من مصاديق أصالة الحلّيّة،فإنّ جريانها في مجموع المشتبهين يستلزم الترخيص في المعصية، وهو ممتنععرفا وعقلاءاً؛ لعدم استفادته من الدليل الشرعي بنظر العرف وإن لم يكن لهمانع عقلاً، وأمّا جريانها في بعض الأطراف فلا مانع منه عقلاءاً بحسب مقامالثبوت، ولكن لا دليل له بحسب مقام الإثبات.
هذا، ولا بدّ من التنبيه على اُمور:
(صفحه356)
الأمر الأوّل: تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات
لو كان أطراف العلم الإجمالي ممّا يوجد تدريجا، كما إذا صار عالما إمّبوجوب أداء الدَّين فعلاً بنحو الواجب المنجّز، وإمّا بوجوب الحجّ في موسمهبنحو الواجب المعلّق، فهل يجب الاحتياط أيضا بالإتيان بجميعها في الشبهاتالوجوبيّة وبترك الجميع في الشبهات التحريميّة، أم لا؟
ويستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمهالله انحصار تدريجيّة الأطراف بدورانالأمر بين المعلّق والمنجّز فقط، وقال: «إنّه لو علم فعليّة التكليف ولو كان بينأطراف تدريجيّة لكان منجّزا ووجب موافقته، فإنّ التدرّج لايمنع عن الفعليّة؛ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حالي كذلك يصحّ بأمر استقبالي، كالحجّفي الموسم للمستطيع»(1).
ولكن يمكن إضافة مورد آخر إليه أيضا، وهو دوران الأمر بين الواجبالمطلق والمشروط؛ إذ التكليف في الواجب المطلق فعلي وفي الواجب المشروطاستقبالي، فإنّ القيد والشرط في مثل قولنا: «إن جاءك زيد فاكرمه» يرجع إلىمفاد الهيئة، لا إلى مادّة الإكرام، فوجوب الإكرام معلّق على مجيء زيد عندالمشهور، بخلاف ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمهالله فلا يكون قبل تحقّق الشرطهناك تكليف.
- (1) كفاية الاُصول 2: 215.