(صفحه366)
الأمر الثالث: في شرطيّة الابتلاء لتنجيز العلم الإجمالي
المعروف بين المتأخّرين من الاُصوليّين أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليأن تكون الأطراف ممّا يمكن ابتلاء المكلّف بها عادة؛ نظرا إلى أنّ النهي عمّلايكون موردا لابتلاء المكلّف بحسب العادة مستهجن عرفا؛ لأنّه كما يعتبر فيعدم كون النهي قبيحا عند العقل أن يكون المكلّف قادرا بالقدرة العقليّة علىإتيان متعلّقه، كذلك يعتبر في عدم كونه مستهجنا عند العرف أن يكون متعلّقهمقدورا للمكلّف بالقدرة العاديّة، وهي مفقودة مع عدم الابتلاء بها عادة.
والوجه في هذا الاعتبار أنّ الغرض من النهي إنّما هو إيجاد الداعي للمكلّفإلى ترك المنهي عنه؛ لاشتماله على المفسدة، وهذا الغرض حاصل بدون النهيفيما لو كان المنهي عنه متروكا عادة، كما أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعيله إلى فعل المأمور به لاشتماله على المصلحة الملزمة، ومع ثبوته للمكلّف بدونهلا مجال للأمر أصلاً؛ لكونه مستهجنا عرفا.
وممّا ذكرنا يظهر أن الرافع للاستهجان هو إمكان ثبوت الداعي إلى الفعلفي النهي وإلى الترك في الأمر بحسب العادة، فلو فرض عدم هذا الداعي إمّلعدم القدرة العاديّة على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني، وإمّا لعدمحصول الداعي اتّفاقا وإن كان مقدورا عادة يستهجن التكليف.
(صفحه 367)
(صفحه368)
الفرق بين الخطابات الشخصيّة والخطابات القانونيّة
والتحقيق في مسألة الابتلاء وعدمه متوقّف على بيان المبنيين في الخطاباتالشرعيّة، أحدهما: ما اختاره المشهور، والآخر: ما ذهب إليه اُستاذ السيّدالإمام رحمهالله ، أمّا ما اختاره المشهور فهو انحلال الخطابات الشرعيّة إلى خطاباتمتعدّدة حسب تعدّد المكلّفين، وحينئذ لابدّ من ملاحظة المكلّف، وأن توجّهالخطاب الشخصي هل يكون مستهجنا بالنسبة إليه، لأجل الاضطرار أو عدمالقدرة العقليّة أو العاديّة أو عدم انصراف إرادته، أو لايكون كذلك لفقدانهذه الاُمور؟ ولا يخفى أنّ الالتزام بذلك يوجب محذورات كثيرة:
منها: أنّ لازمه عدم صحّة تكليف العاصي الذي لا يحتمل المولى الآمر أنيؤثّر أمره فيه، فيخرج عن كونه عاصيا، وكذا الكافر بطريق أولى.
ومنها: أنّ لازمه تعميم ذلك بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة أيضا، فإنّه كميستهجن التكليف بحرمة الخمر الموجود في البلاد البعيدة والنهي عن شربه،كذلك يكون جعل النجاسة له أيضا مستهجنا بعد وضوح أنّ مثل هذا الجعلإنّما هو لغرض ترتيب الآثار، ولا معنى له بعد عدم الابتلاء عادة، وحينئذفيلزم أن يكون الخمر الواحد نجسا بالنسبة إلى من كان مبتلى به، وغير نجسبالنسبة إلى غير المبتلى، وهذا ممّا لايمكن أن يلتزم به فقيه.
نعم، يمكن التفكيك في النجاسة الظاهريّة بالنسبة إلى العالم بالحالة السابقة
(صفحه 369)
والجاهل بها، فإنّ العالم يجري استصحاب النجاسة فيكون نجسا بالإضافةإليه، والجاهل يجري أصالة الطهارة فلا يكون نجسا بالإضافة إليه، ولا يمكنالالتزام بهذا المعنى في الأحكام الواقعيّة.
ومنها: أنّ المكلّف إذا شكّ في أنّه قادر على إتيان المكلّف به أم لا، فمرجعالشكّ في القدرة إلى الشكّ في توجّه الخطاب إليه وعدمه. وفي صورة الشكّ فيهلابدّ من جريان أصالة البراءة، مع أنّ المتّفق عليه هو الاحتياط في موردالشكّ في القدرة، فلا يمكن الجمع بين القول بالانحلال وكلّ مكلّف له خطابخاصّ، والقول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة.
أمّا ما ذهب إليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله من أنّ الخطابات الشرعيّةخطابات كلّيّة متوجّهة إلى عامّة المكلّفين، بحيث يكون الخطاب في كلّ واحدمنها واحدا والمخاطب متعدّدا حسب تعدّد المكلّفين، والمصحّح لهذا النوع منالخطاب العامّ إنّما هو ملاحظة حال نوع المخاطبين دون كلّ واحد منهم، فإنكانوا بحسب النوع قادرين بالقدرة العقليّة والعاديّة صحّ خطاب الجميعبخطاب واحد، ولا يكون عجز البعض عقلاً أو عادة موجبا لاستهجانالخطاب العامّ بعد عدم خصوصيّة مميّزة للعاجز، وهكذا بالنسبة إلى العاصيوالكافر، فإنّ المصحّح لتوجيه الخطاب العامّ الشامل للعاصي والكافر أيضإنّما هو احتمال التأثير بالنسبة إلى النوع وإن علم بعدم تأثيره بالنسبة إلى بعضالمخاطبين.
وبالجملة، لا وجه للقول بانحلال الخطابات الشرعيّة إلى خطابات متعدّدةحسب تعدّد المخاطبين المكلّفين، خصوصا بعد كون مقتضى ظواهرها هووحدة الخطاب وتعدّد المخاطب، فاللازم إبقاؤها على ظاهرها، وبه تندفعالإشكالات المتقدّمة، كما أنّه يظهر به الوجه في وجوب الاحتياط في صورة
(صفحه370)
الشكّ في القدرة الذي هو مورد للاتّفاق.
وإذا اتّضح ذلك تعرف أنه لو كان بعض الأطراف في الشبهة المحصورةخارجا عن محلّ الابتلاء غير مقدور بالقدرة العاديّة لا يكون ذلك موجبلعدم تنجّز التكليف المعلوم إجمالاً؛ لأنّ التكليف يكون ثابتا ولو كان متعلّقهخارجا عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ الخروج عن محلّ ابتلاء بعض المكلّفينلايوجب استهجان الخطاب العامّ والتكليف بنحو العموم، بل الملاك فيالاستهجان ما عرفت من خروجه عن محلّ ابتلاء عامّة المكلّفين أو أكثرهم،وحينئذ فلابدّ من الاحتياط بترك ما هو محلّ للابتلاء أيضا. هذا مع العلمبالخروج.
وأمّا مع الشكّ في ذلك فالأمر أوضح إذا كان منشأ الشكّ هي الشبهةالحكميّة لا الشبهة الموضوعيّة، فإنّ الشكّ يتصوّر على وجهين:
الأوّل: أن تكون ماهيّة الابتلاء وعدمه وحدود مورد الابتلاء واضحة،ولكن لا نعلم أنّ الخمر المتحقّق ـ مثلاً ـ هل يكون داخلاً في الحدّ حتّى يكونموردا للابتلاء أو خارجا عنه حتّى يكون خارجا عن مورد الابتلاء، وهذهالشبهة موضوعيّة.
الثاني: أن تكون ماهيّة الابتلاء وعدمه مشكوكة من حيث المفهوم، وأنّالخمر المتحقّق في محلّ كذا خارج عن مورد الابتلاء أم لا؟ وهذه الشبهةحكميّة، وفعليّة التكليف وعدمها دائر مدار هذا القسم من الابتلاء وعدمه،وفي هذه الصورة يجب الاحتياط والاجتناب عمّا هو محلّ الابتلاء، وذكرالاُصوليّون أدلّة مختلفة له:
منها: ما ذكره المحقّق الحائري وهو: «أنّ البيان المصحّح للعقاب عند العقلـ وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين اُمور ـ حاصل، وإن شكّ في الخطاب