(صفحه 375)
وليس هنا حجّة على العموم حتّى يتمسّك بها في المقدار الذي لايكونالمخصّص حجّة بالنسبة إليه، فاتّصال المخصّص بالعامّ مانع عن كون ظهورهمتّبعا وقابلاً للاحتجاج؛ لأنّ الكلام مادام المتكلّم مشتغلاً به لاينعقد له ظهورمتّبع حتّى إذا فرغ المتكلّم منه، فحينئذ لافرق من هذه الحيثيّة بين كونالمخصّص ذا مراتب وغيره، فما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله بعنوان توضيح استدلالالشيخ الأنصاري رحمهالله ليس بتامّ.
ثمّ أورد المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية على هذا الوجه الذي أفاده الشيخوتابعه المحقّق النائيني رحمهالله بما لفظه: «ومنه قد انقدح أنّ الملاك في الابتلاءالمصحّح لفعليّة الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلاً، هو ما إذا صحّانقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال.ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة؛ لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاقالخطاب؛ ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلاّ فيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعدالفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته، فتأمّل».
وقال في هامشها: «نعم، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييدبالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف ـ كان الإطلاق وعدم بيانالتقييد دالاًّ على فعليّته، ووجود الابتلاء المصحّح لهما، كما لا يخفى»(1).
وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمهالله بما ملخّصه: أنّ إطلاق الكاشف بنفسهيكشف عن إمكان إطلاق النفس الأمري، ولو كان التمسّك بالمطلقاتمشروطا بإحراز إمكان الإطلاق لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات بالكلّيّة، إذ ممن مورد يشكّ في التقييد إلاّ ويرجع إلى الشكّ في إمكان الإطلاق، خصوصعلى مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة؛ لأنّ
- (1) كفاية الاُصول 2: 223.
(صفحه376)
الشكّ في كلّ قيد يلازم الشكّ في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد.
وبالجملة، الإطلاق اللفظي يكشف عن ثبوت الإطلاق النفس الأمري، كمأنّ الخطاب اللفظي يكشف عن ثبوت الملاك والمناط، وحينئذ فيؤخذ بظاهرالإطلاق في الموارد المشكوكة، ويستكشف منه أنّ عدم استهجان التكليف فيمورد الشكّ، كما يستكشف من إطلاق قوله عليهالسلام : «الّلهمّ العن بني اُميّة قاطبة»عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة، مع أنّ حكم العقل بقبحلعن المؤمن لاينقص عن حكمه بقبح تكليف من لايتمكّن عادة(1) إنتهى.
وفيه: أنّ الفرق بين التقييد بالابتلاء وبين المقيّدات الاُخر مثل تبعيّة الحكمللمصالح والمفاسد واضح؛ لأنّ استهجان الخطاب مع عدم الابتلاء ممّا يكونبديهيّا عند العامّة، بخلاف قضيّة المصلحة والمفسدة التي ذهب إليها جمع منالعلماء؛ لنهوض الدليل عليها، وتكون مغفولاً عنها عند العرف والعقلاء، فإذورد «أكرم العلماء» مثلاً، يكون المتفاهم منه بنظر العرف هو وجوب إكرامالجميع من غير توجّه إلى ثبوت المصلحة في إكرام الجميع، ويكون العمومحجّة لا يرفعون اليد عنها في موارد الشكّ في في التخصيص، وهذا بخلافالمقام الذي لا يكون الخطاب مطلقا بنظرهم وشاملاً لصورتي الابتلاء وعدمه،بل يكون مقيّدا من أوّل الأمر بصورة الابتلاء، وحينئذ فلا يجوز التمسّك به معالشكّ في الابتلاء وعدمه، فيكون مرجع الشكّ في الابتلاء إلى الشكّ في خمريّةالمائع مثلاً ـ بعد كون الابتلاء من قبيل المخصّص العقلي المتّصل ـ فمقتضىالقاعدة الرجوع إلى أصالة البراءة، كما ذكره صاحب الكفاية رحمهالله . هذا تمامالكلام في الشبهة المحصورة.
- (1) فوائد الاُصول 4: 61 ـ 62.
(صفحه 377)
الأمر الرابع: في الشبهة الغير المحصورة
ولا بد قبل الورود في البحث من بيان مقدّمتين:
الاُولى: جعل البحث فيها فيما إذا كان الحكم الموجود بين الأطراف الغيرالمحصورة ثابتا من إطلاق أو عموم أو قيام أمارة؛ ضرورة أنّه لو كان معلومبالعلم الوجداني فقد عرفت في أوّل مبحث الاشتغال أنّه يحرم مخالفته، ويجبموافقته قطعا، ولا يعقل الترخيص ولو في بعض الأطراف؛ لعدم اجتماع الفعليّةعلى أيّ تقدير مع الإذن في البعض فضلاً عن الكلّ.
الثانية: تمحيض الكلام في خصوص الشبهة الغير المحصورة، وأنّ كثرةالأطراف بنفسها هل يوجب الاجتناب عن الجميع أم لا؟ مع قطع النظر عنالعسر أو الاضطرار أو عدم الابتلاء، فإنّ هذه الاُمور نافية للاحتياط حتّى فيالشبهة المحصورة.
فمحلّ النزاع في الشبهة الغير المحصورة هو أن كثرة الأطراف وكونهغيرمحصورة هل يوجب الاحتياط أم لا؟
وممّا ذكرنا يظهر أنّه لاوجه للتمسّك في المقام بالاضطرار أو العسر أو عدمالابتلاء، كما صنعه الشيخ في الرسائل(1)، وغيره في غيرها.
ثمّ إنّه تدلّ على عدم وجوب الاحتياط فيها وجوه:
- (1) فرائد الاُصول 2: 430 ـ 431.
(صفحه378)
منها: دعوى الإجماع، بل الضرورة من غير واحد من الأعلام قدسسرهم (1).
وفيه: أوّلاً: أنّه لا حجّيّة لادّعاء الإجماع أو الضرورة بما هما إذا كانمنقولين، بل لا بدّ أن يصل كلّ واحد إليهما بنفسه.
وثانياً: أنّه يحتمل استناد الإجماع إلى أدلّة اُخرى كالرواية مثلاً، فلابدّ منالبحث في مستنده.
ومنها: الأخبار الكثيرة الدالّة على عدم وجوب الاحتياط في مطلقالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو خصوص الغير المحصورة منها، كصحيحةعبداللّه بن سنان المتقدّمة عن أبي عبداللّه عليهالسلام ، قال: «كلّ شيء فيه حلال وحرامفهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه».
وقد عرفت ظهورها في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وهي وإن كانتشاملة للمحصورة أيضا إلاّ أنّه لابدّ من تقييدها وحملها على غير المحصورة.
ودعوى أنّ ذلك حمل على الفرد النادر مدفوعة جدّا؛ لمنع كون الشبهةالغير المحصورة قليلة نادرة بالنسبة إلى المحصورة لو لم نقل بأنّها أكثر، كما يظهرلمن تدبّر في أحوال العرف.
ومنه يظهر الخلل فيما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل في مقام الجوابعن الاستدلال بالأخبار الدالّة على حلّيّة كلّ مالم يعلم حرمته: من أنّ هذهالأخبار نصّ في الشبهة البدويّة، وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة،وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة، فإخراجها عن أحدهموإدخالها في الآخر ليس جمعا، بل ترجيحا بلا مرجّح(2).
وجه الخلل: ما عرفت من ظهور مثل الصحيحة في خصوص الشبهة
- (1) جامع المقاصد 2: 166، روض الجنان: 224، السطر 21، الفوائد الحائريّة: 247.
- (2) فرائد الاُصول 2: 432.
(صفحه 379)
المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لأنّ الشيء الذي فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل هوعبارة عن المختلط بهما مثل مجموع الإنائين أو المايعين، والشبهة البدويّةلاتكون كذلك.
وحينئذ فبعد إخراج الشبهة المحصورة ـ لحكم العقلاء باستلزام الإذن فيالارتكاب فيها للإذن في المعصية، وهو مضافا إلى قبحه غيرمعقول كمعرفت ـ تبقى الشبهة الغير المحصورة باقية تحتها.
هذا، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الشمول للشبهة البدويّة فكونها نصّا فيهوظاهرة في الشبهة الغير المحصورة محلّ نظر، بل منع، كما لا يخفى، فالاستدلالبها صحيح.
ويدلّ على ما ذكرنا أيضا ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبيالجارود، قال: سألت أباجعفر عليهالسلام عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأى أنه يجعلفيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما فيالأرض؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه، إنّيلأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللّه، ما أظنّ كلّهم يسمّون،هذه البربر وهذه السودان»(1).
فإنّه لو أغمض النظر عن المناقشة في السند وكذا في المضمون من جهةصدورها تقيّة ـ لما عرفت سابقا من عدم حرمة الجبن الذي علم تفصيلبوضع الأنفحة من الميتة فيه عند علمائنا الإماميّة قدسسرهم ، خلافا للعامة، والروايةمقرّرة لهذا الحكم ـ تكون دلالتها على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغيرالمحصورة واضحة.
وما ادّعاه الشيخ رحمهالله في الرسائل من أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في
- (1) الوسائل 25: 119، الباب 61 من أبواب أطعمة المباحة، الحديث 5.