(صفحه 383)
الإجماع، ودليلاً بعنوان الروايات، ودليلاً عن المحقّق الحائري رحمهالله ولا يكونالمدار في جميعها عنوان الشبهة الغير المحصورة، بل يختلف العنوان المأخوذ فيكلّ دليل حسب الأدلّة؛ إذ لا يكون في الروايات ـ مثلاً ـ من عنوان الشبهةالغير المحصورة أثر ولا خبر؛ لكونها في الحقيقة من الاصطلاحات الفقهيّة لالروائيّة، فلابدّ من ملاحظة كلّ عنوان مأخوذ في أدلّة عدم وجوبالاحتياط، فلو تمسّك فيها بالإجماع فالواجب الرجوع فيها إلى العرف فيتعيين مفهومها.
وقد اختلفت كلمات الأعاظم في تحديد المعنى العرفي، فقال جمع منهم: إنّهعبارة عمّا يعسر عدّه، وقال بعض منهم: إنّه عبارة عمّا يعسر عدّه في زمانقصير، وأحال تعيين مراتبه أيضا إلى العرف، وحكي عن بعض آخر منهماُمور اُخر.
ولكن حيث إنّ الإجماع ممّا لايجوز التمسّك به؛ لاختلاف العلل الموجبةللحكم بعدم وجوب الاحتياط، فلا يكشف عن رأي المعصوم عليهالسلام ،ولكنّه علىتقدير ثبوته لايقتضي إلاّ عدم وجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّه القدر المتيقّن منه،وأمّا جواز المخالفة القطعيّة بارتكاب الجميع فلا يستفاد منه بعد عدم تيقّنكونه معقد الإجماع، مع أنّه يحتمل قويّا أن يكون المستند للقول بعدم وجوبالاحتياط هو وجوه اُخر، كالروايات الكثيرة الموجودة في المقام، فلا يكونالإجماع دليلاً مستقلاًّ في قبال النصوص.
وأمّا لو استند في الحكم إلى الروايات المتقدّمة ونظائرها فليس هنا عنوانالشبهة الغير المحصورة حتّى ينازع في تعيين معناها وبيان مفهومها؛ لأنّهلاتدلّ إلاّ على حلّيّة الشيء المختلط من الحلال والحرام، وهي وإن كانتمخصّصة بالنسبة إلى الشبهة المحصورة، إلاّ أنّ عنوان المخصّص ليس أيضا هو
(صفحه384)
عنوانها، بل مورد المخصّص هو ما إذا كان الترخيص في ارتكاب الجميعمستلزما للإذن في المعصية بنظر العقل أو العقلاء، ففي هذا المورد يتمسّكبالعموم ويحكم بالترخيص.
وممّا ذكرنا يظهر أنّه بناءاً على هذا الوجه كما لاتكون الموافقة القطعيّةواجبة كذلك لاتكون المخالفة القطعيّة بمحرّمة أصلاً؛ لدلالة الروايات علىحلّيّة مجموع الشيء المختلط من الحلال والحرام، وقد عرفت فيما سبق أنّمرجع ذلك إلى رفع اليد عن التكليف التحريمي الموجود في البين لمصلحةأقوى، وحينئذ فلو كان من أوّل الأمر قاصدا لارتكاب الجميع لوجود الخمربين الأطراف، ولا يتحقّق العلم بارتكابه إلاّ بعد ارتكاب الجميع، فلايكونعاصيا، بل ولا متجرّيا؛ لعدم كون الخمر الموجود بينها بمحرّم أصلاً بعدحصول الاختلاط.
ولو استند في الباب إلى الوجه الذي أفاده في كتاب الدرر فالضابط هوبلوغ كثرة الأطراف إلى حدّ يكون احتمال كون كلّ واحد منها هو المحرّمالواقعي ضعيفا، بحيث لم يكن معتنى به عند العقلاء أصلاً، فكلّما بلغت الكثرةإلى هذا الحدّ تصير الشبهة غيرمحصورة.
ومقتضى هذا الوجه أيضا جواز ارتكاب الجميع؛ لأنّ المفروض أنّ في كلّواحد من الأطراف أمارة عقلائيّة على عدم كونه هو المحرّم الواقعي حتّى فيمإذا بقي طرف واحد، فإنّ الأمارة أيضا قائمة على عدم كونه هو المحرّم، بلالمحرّم كان في ضمن ما ارتكبه.
نعم، لو كان قصده من أوّل الأمر ارتكاب المحرّم الواقعي بارتكاب الجميع،وارتكب واحدا منها واتّفق مصادفته للمحرّم الواقعي تصحّ عقوبته عليه،كما لا يخفى.
(صفحه 385)
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ضابط الشبهة الغير المحصورة
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمهالله أفاد في بيان ضابط الشبهة الغير المحصورة مملخّصه: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّلايمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو نحوهما لأجل الكثرة،فلابدّ في الشبهة الغير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين: كثرة العدد، وعدمالتمكّن من جمعه في الاستعمال، فالعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّهمنها لايكون من قبيل الشبهة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّة منالحنطة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحدإلى الألف، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمالفقط لايوجب أن تكون الشبهة غيرمحصورة؛ إذ ربّما لايتمكّن عادة من ذلكمع كون الشبهة فيه أيضا محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلادالمغرب، فلابدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.
ومنه يظهر عدم حرمة المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المفروض عدم التمكّن العاديمنها، وكذا عدم وجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفةالقطعيّة؛ لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضهيتوقّف على حرمة المخالفة القطعيّة، ليلزم من جريانها مخالفة عمليّة للتكليفالمعلوم في البين، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض، ومع عدمهلايجب الموافقة القطعيّة(1). إنتهى.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله :
أوّلاً: بأنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان
- (1) فوائد الاُصول 4: 117 ـ 119.
(صفحه386)
دفعة، أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا، فهذا يوجبدخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط؛ لأنّ كثيرا منها ممّا لايمكنعادةً جمعها في استعمال واحد، لأجل كثرة أطرافه المحصورة، وإن كان المرادهو الإمكان ولو تدريجا بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين، فلا زمهخروج أكثر الشبهات الغير المحصورة؛ لإمكان جمعها في الاستعمال تدريجا، كمهو واضح.
وثانيا: بأنّك عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ التكاليف الفعليّة ثابتة بالنسبة إلىجميع المخاطبين، ولا تكون مشروطة بالعلم والقدرة ونظائرهما، غاية الأمر أنّالجاهل والعاجز معذوران في المخالفة؛ لأنّ الملاك في حسن الخطاب بنحوالعموم واستهجانه غير ماهو المناط فيهما بالنسبة إلى الخطاب الشخصي، فلولميكن الشخص قادرا على ترك المنهي عنه يكون معذورا، كما أنّه لو لم يكنقادرا على إتيان المأمور به يكون كذلك، فالموجب للمعذوريّة إنّما هو عدمالقدرة على الترك في الأوّل وعلى الفعل في الثاني؛ لتحقّق المخالفة، وأمّا لو لميكن قادرا على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني، فلا معنى للعذر هنا؛لعدم حصول المخالفة منه أصلاً، كما لا يخفى.
وحينئذ فما أفاده من أنّ عدم التمكّن العادي من المخالفة القطعيّة يوجبأن لا تكون محرّمة ممنوع؛ لأنّ عدم التمكّن لايوجب تحقّق المنهي عنه حتّىيرتفع حكمه أو يصير معذورا، فتدبّر.
وثالثا: بأنّه لو سلّم ما ذكر فنقول: إنّ ما تعلّق به التكليف التحريمي هوالخمر الموجود في البين، فلابدّ من ملاحظة عدم التمكّن بالنسبة إليه، وأمّالجمع بين الأطراف الذي هو عبارة اُخرى عن المخالفة القطعيّة، فلا يكونموردا لتعلّق التكليف حتّى يكون عدم التمكّن العادي من المكلّف به موجب
(صفحه 387)
لرفع التكليف المتعلّق به.
وبالجملة، ما هو مورد لتعلّق التكليف ـ وهو الخمر الموجود بين الأطرافالمتكثّرة ـ يكون متمكّنا من استعماله في نفسه؛ لأنّه لايكون إلاّ في إناء واحدـ مثلاً ـ وما لا يتمكّن من استعماله ـ وهو الجمع بين الأطراف ـ لايكون متعلّقلحكم تحريمي أصلاً. نعم، يحكم العقل بلزوم تركه في أطراف الشبهة المحصورةأو غيرها أيضا بناءً على بعض الوجوه، كما عرفت.
مقتضى القاعدة عند الشكّ في كون شبهة محصورة أو غير محصورة
ثمّ إنّه بعد ما عرفت اختلاف الحكم بين الشبهة المحصورة وغيرها ـ منوجوب الاجتناب في الشبهات المحصورة وعدم وجوبه في الشبهات الغيرالمحصورة ـ لو شكّ في كون شبهة محصورة أو غيرها من جهة المفهوم أوالمصداق، فهل القاعدة تقتضي الاحتياط أم لا؟
ولنتكلّم في ذلك بناءً على الوجهين الأخيرين اللذين يمكن الاستدلال بهملنفي وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ـ أي الروايات الدالّة علىالحلّيّة، وما ذكره المحقّق الحائري رحمهالله من تحقّق أمارة عقلائيّة في كلّ واحد منأطراف الشبهة الغير المحصورة الحاكمة بأنّه ليس الحرام الواقعي والحرامالمعلوم بالإجمال ـ فبناءً على كون الدليل في المقام هي الروايات الدالّة علىحلّيّة المختلط من الحلال والحرام، مثل: صحيحة عبداللّه بن سنان، وهي تعمّكلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة، ولا بدّ من إخراج الشبهة المحصورةمن عمومها، فإن قلنا: بأنّها قد خصّصت بالإجماع على وجوب الاجتناب فيالشبهة المحصورة بعنوانها، فإن كانت الشبهة مفهوميّة دائرة بين الأقلّ والأكثريجب الرجوع في مورد الشكّ إلى الروايات الدالّة على الحلّيّة؛ للزوم الأخذ