(صفحه 385)
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ضابط الشبهة الغير المحصورة
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمهالله أفاد في بيان ضابط الشبهة الغير المحصورة مملخّصه: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّلايمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو نحوهما لأجل الكثرة،فلابدّ في الشبهة الغير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين: كثرة العدد، وعدمالتمكّن من جمعه في الاستعمال، فالعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّهمنها لايكون من قبيل الشبهة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّة منالحنطة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحدإلى الألف، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمالفقط لايوجب أن تكون الشبهة غيرمحصورة؛ إذ ربّما لايتمكّن عادة من ذلكمع كون الشبهة فيه أيضا محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلادالمغرب، فلابدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.
ومنه يظهر عدم حرمة المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المفروض عدم التمكّن العاديمنها، وكذا عدم وجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفةالقطعيّة؛ لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضهيتوقّف على حرمة المخالفة القطعيّة، ليلزم من جريانها مخالفة عمليّة للتكليفالمعلوم في البين، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض، ومع عدمهلايجب الموافقة القطعيّة(1). إنتهى.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله :
أوّلاً: بأنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان
- (1) فوائد الاُصول 4: 117 ـ 119.
(صفحه386)
دفعة، أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا، فهذا يوجبدخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط؛ لأنّ كثيرا منها ممّا لايمكنعادةً جمعها في استعمال واحد، لأجل كثرة أطرافه المحصورة، وإن كان المرادهو الإمكان ولو تدريجا بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين، فلا زمهخروج أكثر الشبهات الغير المحصورة؛ لإمكان جمعها في الاستعمال تدريجا، كمهو واضح.
وثانيا: بأنّك عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ التكاليف الفعليّة ثابتة بالنسبة إلىجميع المخاطبين، ولا تكون مشروطة بالعلم والقدرة ونظائرهما، غاية الأمر أنّالجاهل والعاجز معذوران في المخالفة؛ لأنّ الملاك في حسن الخطاب بنحوالعموم واستهجانه غير ماهو المناط فيهما بالنسبة إلى الخطاب الشخصي، فلولميكن الشخص قادرا على ترك المنهي عنه يكون معذورا، كما أنّه لو لم يكنقادرا على إتيان المأمور به يكون كذلك، فالموجب للمعذوريّة إنّما هو عدمالقدرة على الترك في الأوّل وعلى الفعل في الثاني؛ لتحقّق المخالفة، وأمّا لو لميكن قادرا على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني، فلا معنى للعذر هنا؛لعدم حصول المخالفة منه أصلاً، كما لا يخفى.
وحينئذ فما أفاده من أنّ عدم التمكّن العادي من المخالفة القطعيّة يوجبأن لا تكون محرّمة ممنوع؛ لأنّ عدم التمكّن لايوجب تحقّق المنهي عنه حتّىيرتفع حكمه أو يصير معذورا، فتدبّر.
وثالثا: بأنّه لو سلّم ما ذكر فنقول: إنّ ما تعلّق به التكليف التحريمي هوالخمر الموجود في البين، فلابدّ من ملاحظة عدم التمكّن بالنسبة إليه، وأمّالجمع بين الأطراف الذي هو عبارة اُخرى عن المخالفة القطعيّة، فلا يكونموردا لتعلّق التكليف حتّى يكون عدم التمكّن العادي من المكلّف به موجب
(صفحه 387)
لرفع التكليف المتعلّق به.
وبالجملة، ما هو مورد لتعلّق التكليف ـ وهو الخمر الموجود بين الأطرافالمتكثّرة ـ يكون متمكّنا من استعماله في نفسه؛ لأنّه لايكون إلاّ في إناء واحدـ مثلاً ـ وما لا يتمكّن من استعماله ـ وهو الجمع بين الأطراف ـ لايكون متعلّقلحكم تحريمي أصلاً. نعم، يحكم العقل بلزوم تركه في أطراف الشبهة المحصورةأو غيرها أيضا بناءً على بعض الوجوه، كما عرفت.
مقتضى القاعدة عند الشكّ في كون شبهة محصورة أو غير محصورة
ثمّ إنّه بعد ما عرفت اختلاف الحكم بين الشبهة المحصورة وغيرها ـ منوجوب الاجتناب في الشبهات المحصورة وعدم وجوبه في الشبهات الغيرالمحصورة ـ لو شكّ في كون شبهة محصورة أو غيرها من جهة المفهوم أوالمصداق، فهل القاعدة تقتضي الاحتياط أم لا؟
ولنتكلّم في ذلك بناءً على الوجهين الأخيرين اللذين يمكن الاستدلال بهملنفي وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ـ أي الروايات الدالّة علىالحلّيّة، وما ذكره المحقّق الحائري رحمهالله من تحقّق أمارة عقلائيّة في كلّ واحد منأطراف الشبهة الغير المحصورة الحاكمة بأنّه ليس الحرام الواقعي والحرامالمعلوم بالإجمال ـ فبناءً على كون الدليل في المقام هي الروايات الدالّة علىحلّيّة المختلط من الحلال والحرام، مثل: صحيحة عبداللّه بن سنان، وهي تعمّكلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة، ولا بدّ من إخراج الشبهة المحصورةمن عمومها، فإن قلنا: بأنّها قد خصّصت بالإجماع على وجوب الاجتناب فيالشبهة المحصورة بعنوانها، فإن كانت الشبهة مفهوميّة دائرة بين الأقلّ والأكثريجب الرجوع في مورد الشكّ إلى الروايات الدالّة على الحلّيّة؛ للزوم الأخذ
(صفحه388)
بالقدر المتيقّن، كما هو الشأن في نظائر المقام ممّا كان الشكّ من جهة المفهوموتردّده بين الأقلّ والأكثر.
وإن كانت الشبهة مصداقيّة كما إذا علم بأنّ الألف يكون من الشبهة الغيرالمحصورة ونصفه من المحصورة، ولكن شكّ في أنّ أطراف هذه الشبهةالخارجيّة هل تبلغ الألف أو لاتتجاوز عن نصفه؟ فلا مجال من الرجوع إلىالإجماع بعد عدم إحراز موضوعه، ولا من الرجوع إلى الروايات؛ لأنّه منقبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، وقد حقّق سابقا عدمالجواز، بل اللازم الرجوع إلى أدلّة التكاليف الأوّليّة والحكم بوجوبالاجتناب؛ لعدم ثبوت المرخّص، كما هو واضح.
هذا كلّه لو كان المخصّص للروايات هو الإجماع على خروج عنوان الشبهةالمحصورة، وأمّا لو كان المخصّص هو حكم عقل العرف بلزوم رفع اليد عنالعموم في ما يوجب الإذن في المعصية، فاللازم بناءً على ما ذكرنا سابقا من أنّالدليل العقلي إنّما يكون كالمخصّص المتّصل ـ ضروريا كان أو نظريّا ـ ، يكونالعامّ من أوّل الأمر مقيّدا بغير صورة يستلزم الإذن في المعصية الذي هوقبيح، فلا يصحّ التمسّك به في مورد الشكّ؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ فيالشبهة المصداقيّة لنفسه، وهو لايصحّ اتّفاقا.
وأمّا لو كان الدليل هو الوجه الأخير، فإن كانت الشبهة مصداقيّة فالظاهرأنّه لايجب الاجتناب؛ لأنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي في البين وإنكان موجبا للاحتياط، إلاّ أنّه إذا خرج من ذلك ما إذا قامت الأمارة العقلائيّةعلى عدم كون كلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعي بالقياس إلى غيره،فهو نظير ما إذا دلّ الدليل الشرعي على ذلك، فالتمسّك بدليل التكليف الواقعيفي مورد الشكّ من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، وحينئذ فلا يبقى
(صفحه 389)
وجه لوجوب الاجتناب.
وأمّا لو كانت الشبهة مفهوميّة فالواجب الرجوع إلى دليل التكليف الواقعيوالحكم بوجوب الاجتناب؛ لعدم ثبوت كون مورد الشكّ خارجا، نظير مإذا كان المخصّص اللفظي مجملاً مفهوما، مردّدا بين الأقلّ والأكثر، كما لا يخفى.
تنبيهان
الأوّل: أنّه بعد الحكم بعدم تأثير العلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة،هل تكون الأطراف محكومة بالحكم المترتّب على الشكّ البدوي، فلا يجوزالتوضّي بالمائع المشتبه بين الماء والبول بالشبهة الغير المحصورة ـ كما هو الشأنفي المشتبه بالشبهة البدويّة ـ ضرورة لزوم إحراز أنّ ما يتوضّى به ماء مطلق،أو تسقط الأطراف عن حكم الشكّ البدوي أيضا، فيجوز الوضوء بالمائعالمردّد بين الماء والبول في المثال؟ وجهان مبنيّان على الوجهين السابقين اللذيناستند إليهما لنفي وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة.
فإن كان المستند في ذلك هي روايات الحلّ فلا يجوز التوضّي به في المثال:لأنّ مدلولها مجرّد الحلّيّة في مقابل الحرمة، وأمّا إثبات الموضوع وأنّ الحلالهو الماء فلا تدلّ عليه أصلاً، كما هو الشأن في الشكّ البدوي، كما لا يخفى.
وأمّا لو كان المستند هو الوجه الأخير الذي مرجعه إلى وجود أمارةعقلائيّة في كلّ واحد من الأطراف، فتسقط عن حكم الشكّ البدوي أيضا؛لأنّ الأمارة قائمة على عدم كون كلّ واحد منها هو البول، والمفروض اعتبارهذه الأمارة شرعا، فكلّ واحد من الأطراف محكوم شرعا بعدم كونه بولاً،فيجوز التوضّي به.
هذا، ولا يخفى أنّه بناءً على ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله (1) من الوجه لعدم
- (1) فوائد الاُصول 4: 119.