(صفحه 391)
الأمر الخامس: في حكم الملاقي لأحد أطراف
العلم الإجمالي بوجود النجس
وهذه المسألة تقع موردا للابتلاء كثيرا مّا، كما إذا علمنا بنجاسة نقطة منالبساط ثمّ لاقاه بِرِجلٍ مرطوبة مثلاً، فهل يكون الملاقي محكوما بالنجاسة أوالطهارة أو يتحقّق التفصيل في المسألة؟
وتنقيح الكلام في هذا المقام يتمّ ببيان اُمور:
الأوّل: أنّ العلم بالملاقاة قد يكون متقدّما على العلم الإجمالي بوجودالنجس في البين، وقد يكون متأخّرا عنه، وقد يكون مقارنا له، وعلى أيتقدير فقد يكون الملاقى ـ بالفتح ـ موردا للابتلاء، وقد يكون خارجا عنهمطلقا أو حين العلم الإجمالي بالنجس.
ثمّ إنّه قد يعلم أوّلاً بنجاسة الملاقي والطرف، وقد يعلم أوّلاً نجاسة الملاقىوالطرف، وقد يعلم نجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف، وأنّ ملاقي النجس نجسبعنوانه.
الثاني: أنّ الظاهر أنّ نجاسة ملاقي النجس إنّما هي حكم وضعي تعبّديثابت لموضوعه، ولا تكون من آثار النجس بحيث كان معنى الاجتناب عنالنجس راجعا إلى الاجتناب عنه وعمّا يلاقيه.
(صفحه392)
نعم، يمكن أن يقال بأنّ تنجيس النجس الراجع إلى سببيّته لنجاسة الملاقييكون مجعولاً شرعا، بناء على ما هو الحقّ من إمكان جعل السببيّة، وأمّالسراية التكوينيّة فقد لاتكون متحقّقة، كما لا يخفى.
ويستفاد من كلام الشيخ رحمهالله أنّ معنى الاجتناب عن النجس هو الاجتنابعنه وعمّا يلاقيه.
وقد يستدلّ لذلك بقوله تعالى: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1)؛ لأنّ هجر النجاساتلايتحقّق إلاّ بهجر ملاقيها.
وقد يستدلّ برواية جابر الجعفي عن أبي جعفر عليهالسلام أنّه أتاه رجل، فقال له:وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فماترى في أكله؟ فقال: أبوجعفر عليهالسلام «لاتأكله» فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، فقالأبوجعفر عليهالسلام : «إنّك لمتستخفّ بالفأرة، إنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّمالميتة من كلّ شيء»(2).
وجه الدلالة أنّه عليهالسلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريمالميتة، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لميكن أكل الطعام استخفافا بتحريمالميتة، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.
أقول: أمّا قوله تعالى: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» فنمنع أوّلاً أن يكون المراد بالرّجزهيالأعيان النجسة، ونمنع ثانيا كون المراد بالهجر هو هجره وهجر ما يلاقيه.
وأما الرواية فمضافا إلى ضعف سندها لابدّ من ملاحظة أمرين فيها:
الأوّل: أنّ حمل الحرمة في قوله: «إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء» علىالنجاسة مضافا إلى أنّه خلاف الظاهر لا شاهد عليه، بل معناها حرمة أكل
- (2) الوسائل 1: 206، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.
(صفحه 393)
ميتة، ومعلوم أنّ حرمة أكل كلّ ميتة لايستلزم النجاسة، فإنّ السمكة إذماتت في الماء ولم تحقّق التذكية الشرعيّة لها تكون ميتة محرّمة الأكل، لكنّهليست بنجسة.
الثاني: أنّه لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه، وأنّ التصرّفالحرام في المال المغصوب لايستلزم حرمة ملاقيه، وهذه المسألة مناختصاصات باب النجاسات فقط.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ قوله عليهالسلام : «إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شيء» بمنزلةالتعليل في الرواية، وهو يدور مدار الحرمة لا النجاسة، وقلنا: إنّ حرمة الشيءلايستلزم حرمة الملاقي، ومن هنا تتحقّق مشكلة، وهي عدم التناسبوالارتباط بين سؤال السائل وجواب الإمام، فإنّ السؤال يكون عن أكلالسمن والزيت الكذائي، والجواب يكون عن حرمة الميتة، وهذا ما اضطرّالشيخ رحمهالله إلى اتّخاذ الطريق المذكور، فجعل المدار في استدلال الإمام عليهالسلام مسألةنجاسة الميتة، مع أنّه خلاف الظاهر.
ولكنّ التحقيق: أنّه يحتمل قويّا أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة فيالطعام بحيث تفسّخت فيه وانبثّت أجزاؤها، فحرمة أكل الطعام إنّما هو منحيث أنّه مستلزم لأكل الميتة، والدليل على ذلك هو التعليل الدالّ على أنّ تركالاجتناب عن الطعام استخفاف بتحريم الميتة؛ ضرورة أنّه لم يقل أحد بأنّحرمة شيء تستلزم حرمة ما يلاقيه.
ودعوى أنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الكذائي الذي صارت أجزاء الميتةمخلوطة بأجزائه فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه، مدفوعة بقول السائل:«الفأرة أهون علىّ من أن أترك طعامي من أجلها» خصوصا بعد ملاحظةحال الأعراب في صدر الإسلام، بل في الأزمنة المتأخّرة، كما لا يخفى.
(صفحه394)
فانقدح ممّا ذكرنا: أنّه ما لم يقم الدليل على نجاسة ملاقي النجس لم يفهمأحد من نفس الأدلّة الدالّة على نجاسة الأعيان النجسة نجاسة ما يلاقيها منسائر الأشياء أيضا، بل لابدّ من قيام الدليل على ذلك، وقد عرفت أنّ ظاهرهجعل السببيّة الشرعيّة الراجعة إلى تأثير النجس شرعا في نجاسة ملاقيه،فتدبّر.
عدم كاشفيّة البيّنة الثانية بعد إقامة البيّنة الاُولى
الثالث: يعتبر في تأثير العلم وكذا غيره من الأمارات المعتبرة أن يكونمتّصفا بالكاشفيّة الفعليّة ومؤثّرا في التنجيز فعلاً وصالحا للاحتجاج بهكذلك، فلو حصل له من طريق أمارة معتبرة الحكم الواقعي ثمّ قامت أمارةاُخرى على وفق الأمارة الاُولى فلا تكون الأمارة الثانية بمؤثّرة أصلاً، ويكونوجودها بمنزلة العدم؛ لعدم اتّصافها بالكاشفيّة الفعليّة بعد حصول الكشفبسبب الأمارة الاُولى، وعدم تحقّق الكشفين بالنسبة إلى شيء واحد، وكذا لتكون مؤثّرة في التنجيز وقابلة للاحتجاج به فعلاً؛ لعدم إمكان التنجّز مرّتينواستحالة تماميّة الحجّة ثانيا بعد إتمامها أوّلاً، وكذا بالنسبة إلى العلم. نعم،يمكن أن يكون لها عنوان تعليقي بأنّ الأمارة الثانية كاشفة ومنجّزة لو لمتكنالأمارة الاُولى.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان العلم الإجمالي بالنجس متقدّما على العلمبالملاقاة فلا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ فإنّ العلم الإجماليبالنجس المردّد بين الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف قد أثّر في التّنجز بمجرّد تحقّقهوصار موجبا للاجتناب على أيّ تقدير وكاشفا للواقع بهذا النحو منالكشف، والعلم الإجمالي الحاصل ثانيا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف
(صفحه 395)
لايكون كاشفا فعليّا على تقدير كون النجس هو الطرف الآخر؛ لأنّه صارمكشوفا بالعلم الإجمالي الأوّل، وقد عرفت أنّه لايعقل عروض الكشف علىالكشف وتحقّقه مرّتين، كما أنّه لايكون هذا العلم الإجمالي مؤثّرا في التنجّزفعلاً بعد كونه مسبوقا بما أثّر فيه، وحينئذ فلا أثر له أصلاً، فالشكّ في نجاسةالملاقي ـ بالكسر ـ شكّ بدوي.
وأمّا إذا علم أوّلاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف، ثمّ حصل العلمبالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف، وأنّ منشأ العلم الإجماليبنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هو العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ فذهبالمحقّق الخراساني في الكفاية إلى عدم وجوب الاجتناب حينئذ عن الملاقىـ بالفتح ـ لأنّ حكم الملاقي في هذه الصورة حكم الملاقي في الصورة السابقةبلافرقٍ بينهما أصلاً، فكما أنّ الملاقي هناك لم يكن طرفا للعلم الإجماليبالنجاسة، كذلك الملاقي هنا لايكون طرفا له، كما هو المفروض.
وذهب أيضا إلى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ فيما إذا علمبالملاقاة، ثمّ حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقي خارجا عن محلّ الابتلاءفي حال حدوثه وصار مبتلى به بعده، وإلى وجوب الاجتناب عن الملاقيوالملاقى معا فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة مستدلاًّ بقوله:ضرورة أنّه حينئذ نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر،فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنين(1).إنتهى.
أقول: والتحقيق أيضا يوافق هذا التفصيل؛ لما مرّ من الوجه في الصورةالاُولى، فإنّه بعد ما علم إجمالاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف صار
- (1) كفاية الاُصول 2: 227.